كان مهما ان ينعقد المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله بعد غياب طويل. فالدورة الأخيرة انعقدت في العام 1996. كان الهدف منها وقتذاك الغاء بنود في الميثاق الوطني الفلسطيني. من بين المواد التي الغيت، تمهيدا للدخول في مفاوضات الوضع النهائي مع إسرائيل، واحدة تقول: " تقسيم فلسطين في عام 1947 وإقامة دولة إسرائيل هما غير قانونيين كلّيا، ايّا يكن الوقت الذي انقضى، لانّهما مناقضان لإرادة الشعب الفلسطيني ولحقه الطبيعي في وطنه"، أي بكل فلسطين.

كانت دورة 1996، عندما كان ياسر عرفات لا يزال حيّا يرزق، بمثابة تصالح مع الواقع ومع موازين القوى الإقليمية والدولية في ظلّ اعتراف بالدور الاميركي في الوصول الى تسوية ما على أساس خيار الدولتين الذي صار الآن جزءا من الماضي. يعود ذلك بكلّ بساطة الى الاستيطان الإسرائيلي في الضفّة الغربية من جهة والى ان الإدارة الاميركية الحالية ليست متحمّسة لخيار الدولتين، إضافة الى انها منحازة كلّيا لإسرائيل. لا حاجة الى امثلة على ذلك، اذا يكفي موقف الرئيس دونالد ترامب من القدس للتأكّد من مدى ذهابه بعيدا في هذا الانحياز. امّا بالنسبة الى الاستيطان، بات عدد الإسرائيليين المقيمين في الضفّة يزيد على 800 الف مستوطن. انّه رقم مخيف يعطي فكرة عن إصرار إسرائيل على خنق خيار الدولتين في المهد.

المؤسف، حسب احد الحاضرين من أعضاء المجلس ان "ما طرح في الجلسات كان أفكارا قديمة تتولى التعاطي معها شخصيات اكل الدهر عليها وشرب". لم يسمع العضو المشارك في دورة المجلس "ايّ فكرة جديدة من ايّ نوع" حسب قوله. كان كافيا مشاهدة أعضاء في المجلس ينزلون من السيارات التي اقلتهم الى مكان انعقاد دورة المجلس الوطني في رام الله للتأكّد من حال الترهل التي تعاني منها القيادة الفلسطينية التي لم تستطع تجديد نفسها. هناك قيادات فلسطينية تجاوزت الثمانين من العمر تريد التعاطي مع واقع معقّد داخليا وإقليميا لا تعرف عنه الكثير، هذا اذا كانت تعرف شيئا.

هناك ازمة فلسطينية على مستويين. المستوى الداخلي والمستوى الإقليمي والدولي. كانت اهمّية ياسر عرفات، قبل ارتكابه خطأ السقوط في فخّ رفض قبول النقاط التي طرحها الرئيس كلينتون بعد فشل قمّة كامب ديفيد في العام 2000، تكمن في القدرة على التكيف مع الواقع. امتلك الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني ما يكفي من الشجاعة للدفع منذ العام 1988 في التخلص من عقد الماضي مع ما يعنيه ذلك من سعي الى إقامة علاقات مع الولايات المتحدة. توجت جهوده بالزيارة التي قام بها لواشنطن من اجل توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض في أيلول – سبتمبر 1993. حصل ذلك على الرغم من خطأ كبير آخر، بل خطأ ضخم، ارتكبه في العام 1990 عندما لم يدرك حجم الجريمة التي ارتكبها صدّام حسين، في حقّ العراق والعراقيين اوّلا، باجتياحه الكويت. كانت تلك جريمة في حقّ العراق قبل ان تكون في حقّ الكويت وشعبها الذي وجد نفسه فجأة شعبا مشرّدا.

تقع القيادة الفلسطينية الحالية في الخطأ نفسه الذي وقع فيه ياسر عرفات في 1990. الفارق ان مرحلة بداية التسعينات كانت مرحلة مختلفة تماما على كلّ الصعد. كان هناك اهتمام عالمي بالقضية الفلسطينية. كانت تلك قضية العرب الاولى. تغيّر كلّ شيء الآن. فقد العالم ايّ اهتمام بفلسطين وفقد العرب الشعور بان فلسطين اولويّة لديهم بعدما اطلّ الخطر الايراني برأسه مهددا كلّ دولة من دول المنطقة... وصولا الى اليمن. عرف ياسر عرفات كيف إعادة القضيّة الفلسطينية الى الواجهة على الرغم من كلّ الصعوبات. لم يحد عن هدف إقامة علاقات مباشرة مع الإدارة الاميركية. كان يستوعب دائما انّ اميركا وسيط لا بدّ منه في حال كان المطلوب التوصل الى تسوية في يوم ما.

ليس هناك حاليا من يدرك معنى ان القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب الاولى وانّ لا وجود لايّ ورقة ضغط فلسطينية على الولايات المتحدة او إسرائيل. ما الذي يمكن ان يجبر حكومة بنيامين نتانياهو الى العودة الى طاولة المفاوضات؟ ثم ما هي مصلحة نتانياهو بايّ مفاوضات من ايّ نوع، خصوصا انّ لا إدارة أميركية ملتزمة خيار الدولتين. هذا الخيار يعني اوّل ما يعني تدخلا اميركيا لوضع حدّ للاستيطان. وهذا ليس واردا على الاطلاق.

خلاصة الامر ان لا فائدة من أي مجلس وطني في غياب الهدف الواضح المطلوب تحقيقه. يقول الفلسطيني الذي استشهدت به في مطلع المقال والذي شارك في جلسات المجلس الوطني: "بدل ان تعلن القيادة الحالية فشلها وتعترف بعجزها وتسلّم المسؤولية للأجيال الشابة التي قد تكون اكثر أهلية للتعامل مع التحديات، تتمسّك هذه القيادة باسنانها وما بقي لها من مخالب بالسلطة. تفعل ذلك حفاظا على مصالحها الذاتية التي هي بالتأكيد غير مصلحة الوطن والمواطنين، أي فلسطين والفلسطينيين".

كلّ ما في الامر ان عجائز تتعاطى مع موضوع جديد لا تعرف شيئا عنه. لا علاقة لهذه العجائز بما يدور في المنطقة ولا تعرف كيف تجد مدخلا الى البيت الأبيض. الأهم من ذلك كلّه ان الأدوات التي تستخدمها القيادة الفلسطينية في أي عاصمة عربية او أوروبية او في واشنطن ونيويورك لا علاقة لها من قريب او بعيد بما يدور على ارض الواقع ان في الشرق الاوسط او في اميركا نفسها التي نفضت يديها من فلسطين.

هذا لا يعني في طبيعة الحال ان الشعب الفلسطيني سيستسلم لإسرائيل. الشعب لن يستسلم، على الرغم من ان "حماس" الساعية الى تكريس انفصال الضفّة عن قطاع غزّة تجهد من اجل ذلك. لن يستسلم الفلسطينيون لحال الترهل التي تعاني منها قيادتهم. ليس بعيدا اليوم الذي سيقولون فيه ان قضيتهم تحوّلت بفضل القيادة الحالية الى قضية تنسيق امني مع إسرائيل في الضفّة الغربية وتقديم الخدمات المجانية لإسرائيل في غزّة تحت شعارات إسلامية مزيّفة. سيقولون ان هناك حاجة الى قيادة جديدة تستطيع تجاوز حال الانقسام القائمة وتعيد العلاقات مع العرب الآخرين ومع العالم.

يفترض في مثل هذه القيادة الشابة التي يحتاج اليها الفلسطينيون ادراك انّ العالم العربي تغيّر وان اميركا نفسها تغيّرت. ما هو الذكاء في النهاية؟ الذكاء في جزء منه هو القدرة على التعاطي مع المتغيّرات وليس السقوط في حال من الجمود دفاعا عن قيادة عجوزة متخلّفة كلّيا ليس فيها من يعرف ماذا يدور خارج محيط البيت الذي يقيم فيه... هذا اذا عرف ما يدور في بيته.

 

خيرالله خيرالله