لفت تحقيق صحيفة «اندبندنت» البريطانية الخطير، حول ما تفعله الإمارات في جزيرة سقطرى اليمنية، الأنظار إلى تحول الإمارات إلى ظاهرة غريبة جديدة تستعيد مناهج دول الاستعمار القديمة، كبريطانيا (التي كانت أبو ظبي نفسها أحد مستعمراتها) وفرنسا واسبانيا والبرتغال، في مدّ دائرة سيطرتها ونفوذها العسكري والسياسي، وتحويل بلدان أكبر منها بكثير، إلى أتباع تدور حولها.
وكما مارست تلك البلدان الاستعمارية أشكال العسف والقمع والاضطهاد وتركت ندوباً جغرافية وتاريخية كبيرة على امتداد العالم، فإن الإمارات، التي صارت ثالث أكبر مستورد للسلاح في العالم، أخذت بفرد عضلاتها الأمنية وقواعدها في الخليج نفسه وعبر البحر الأحمر، ونشرت سجوناً مخيفة خاصة بها في اليمن، وموّلت ميليشيات محلّية يمنية تضرب بسيفها وتروّع أهل البلاد وتضعف السلطات السياسية الشرعية، كما وصلت طائراتها وغاراتها إلى ليبيا، وأموال التأثير على أجهزة الإعلام والأحزاب والاتجاهات السياسية في المشرق والمغرب العربيين، إضافة إلى تخطيطها وتنسيقها لحملات الضغط في بلدان الغرب والولايات المتحدة الأمريكية… وأقاصي البحار.
تلك البلاد الصغيرة التي كان مواطنوها هانئين بمستويات عيشهم المرتفع بعد اكتشاف النفط، والتي أصبحت منذ ستينيات القرن الماضي نقطة جذب متصاعد للسياح ورجال الأعمال، كانت، كغيرها من بلدان الخليج، ملجأ لعيش العرب الهاربين من بلدان الدكتاتورية العسكرية والفقر والفساد وأشكال البطش وخصوصا في سوريا ومصر والجزائر وليبيا واليمن، منذ نشوء تلك الدول الحديثة واستقلالها عن «الاستعمار» القديم، فإذا بها تنقلب على ذلك الإرث المريح والرخيّ والمستقرّ لتصبح في قلب العواصف السياسية للعالم، ولتتحالف مع تلك الدكتاتوريات الوحشية، وتتمثّل نموذج الكولونياليات الغربية، وتبدأ بخطّ طريق يستلهم أفكار الدولة المركزية المخابراتية العربية ويحوّل شعبها إلى سجين في قفص ذهبي، فيما تطارد قوّاتها أشكال الثورات العربية، وتحيل كل ما تلمسه إلى فساد وخراب ودمار.
يمثّل نموذج سقطرى، على ما يظهر، انتقالا من نموذج الاستعمار، على هدي الدول الغربية خلال القرنين الماضيين، إلى نموذج الاستيطان، الذي كانت فرنسا ترغب في إنجازه في الجزائر، والذي قامت إسرائيل على تأسيسه في فلسطين، وإذا كانت دول الاستعمار القديم قد بررت ممارسات الاستتباع الاقتصادي والسياسي للمحكومين وبلدانهم بأيديولوجيات «التنوير» والإخاء والمساواة ونشر العلم والثقافة الغربية وأسس الديمقراطية والمدنية، فقد اشتغلت الإمارات على مشاريع ثقافية وإعلامية وسينمائية، واستثمرت في المدن الذكية والرقمية والمهرجانات الفنية والأدبية والسياحية وأسست وزارة «للسعادة» وشغّلت طابورا كبيرا من المثقفين للترويج لمشروعها «المناهض للظلامية»!
غير أن مشاريع «التنوير» و«الحداثة» المزيفة تلك لا يمكنها أن تغطي ممارسات السجون المرعبة والاغتيالات في ربوع اليمن، وزرع القواعد العسكرية في إريتريا وجيبوتي والصومال، ودعم نموذج الرئيس عبد الفتاح السيسي، والجنرال خليفة حفتر، ومحاولة خنق الحراكات الديمقراطية في تونس والمغرب، وهدر الأموال على شيطنة قطر ومحاربتها، والتعامل مع أنواع الفساد السياسي والمالي في أنحاء العالم.
لقد فتحت حقبة الاجتياح الأمريكي للعراق، وتمدد النفوذ الإيراني، وتعفّن الأنظمة العربية، المجال واسعا لقيام الثورات العربية، وكان لأبو ظبي، لو ارادت فعلا المساهمة في نشر الديمقراطية والمدنية والحداثة، أن تدعم تلك الثورات، أو على الأقل أن تقف على الحياد، لكنّها، لأسباب خاصة بحكامها ربما، قرّرت الوقوف مع الثورات المضادة، والاستثمار في صنع امبراطورية على أشلاء الشعوب التي صنعت الحضارة العربية ـ الإسلامية، وهي مفارقة كبيرة، وثمنها التاريخي سيكون أكبر.