من شعارات الدولة الحديثة التي تعتبر نفسها قد تطورت عبر العقود إقامة «حكم القانون»، اي اخضاع الدولة والشعب لمرجعية توافقية يلجأ اليها في حالات الاختلاف. ويفترض ان يكون التعامل الانساني اليومي على الصعدان الفردية والمجتمعية والاممية ملتزمة بهذا «القانون». فكلما خضعت كل جهة بما هو متفق عليه تقلصت الحاجة للرجوع إلى القانون. انه شعار براق يستهوي الغالبية من البشرالذين يختلفون بطبيعتهم ويرغبون في فض الخلاف والاختلاف بما يضمن حقوق الافراد ويحفظ السلم الاجتماعي والاممي. وكثيرا ما تحدث المفكرون والعلماء عن نوعين من القانون: إلهي ووضعي (من صنع البشر). والاختلاف حول المرجعية القانونية يمثل جانبا من الصراع بين «الدينيين» و «العلمانيين». وهذا الصراع لم يتوقف يوما، وكثيرا ما كان الرجحان فيه لدعاة القانون الوضعي، نظرا للدعاية المتواصلة ضد الحكم الذي يتبناه دعاة المشروع الديني. مع ذلك فسيظل هذا الصراع محتدما، خصوصا مع تراجع فاعلية المفهوم نفسه نظرا لاخضاعه للعنصر البشري الذي يفتقد النزاهة والتجرد والقبول بما هو حق وفق الاطروحات الدينية. وبرغم اخفاقات التجارب الاسلامية العديدة التي وصلت إلى الحكم، فمن السابق لأوانه الاعتقاد بامكان اقامة نظام سياسي عادل بشكل مطلق باعتماده على القانون الوضعي، واعتبار الانسان دائما هو مصدر التشريع. كما أن من الاجحاف الترويج لمقولة ان القانون الإلهي (اي الذي روجه الانبياء والكتب السماوية) لا يناسب الدولة الحديثة او انه قد يصلح للزمن الغابر فحسب.
ومن يتابع مدى فاعلية شعار «حكم القانون» في المجتمعات الحديثة (بما فيها الديمقراطيات الغربية) يكتشف بوضوح اخفاقات كبيرة تساهم بشكل مستمر في تعاسة الكثيرين، وغياب العدالة المطلقة، وتهميش الغالبية الساحقة من البشر، وتصاعد ظواهر الفقر والظلم والاضطهاد وتوسع الفجوة بين الاغنياء والفقراء، وتراجع المجتمعات التي يفترض أنها قطعت اشواطا كبيرة في الرقي والتطور وانماط الحكم. بل ان اضفاء القداسة على ما هو انتاج بشري من قوانين ومبادئ وقيم تتغير باضطراد من بين اسباب التداعي البيئي واختلال التوازن المناخي، وانتشار الامراض الناجمة عن التدخل البشري في ما هو اختصاص إلهي. ولتوضيح هذه المقولات يمكن ايراد بعض الامثلة:
اولا: عندما ترتفع الضجة حول ظواهر «معاداة السامية» او «الاسلاموفوبيا» او «العنصرية» وهي قضايا لا يمكن انكار وجودها في العديد من المجتمعات «الديمقراطية» فان ذلك مؤشر على وجود هفوات في اقامة «حكم القانون» او في القانون نفسه. وعندما تصادر الحريات الشخصية وتتقلص هوامشها خصوصا حرية التعبير بدعاوى «المصلحة العامة» او «الحفاظ على السلم الاجتماعي»، فان ذلك تأكيد لغياب القانون الذي يحمي تلك الحقوق. وحين تتصاعد في العواصم الغربية ظاهرة المتسكعين الذين لا يجدون سكنا او طعاما، فان من المؤكد انه ناجم عن غياب القانون العادل الذي يحقق العدالة بين البشر ويمنع الاستغلال او النهب باسم القانون او استغلال المناصب للاثراء من المال العام الذي هو ملك للجميع. وقديما قال الامام علي بن ابي طالب: «ما متع غني الا بما حرم منه فقير». وقال: «ما رأيت نعمة موفورة الا والى جانبها حق مضيع».
ثانيا: عندما يتغاضى المجتمع الدولي عن مآسي الشعوب فتنشب الحروب التي تحصد ارواح البشر بدون حساب، وعندما يصبح «التوازن الدولي» مؤسسا على «توازن الرعب» بتكديس اسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيماوية) لدى الدول الكبرى التي تستخدمها متى تشاء لتحصد أرواح البشر، أليس ذلك مؤشرا لغياب حكم القانون واستبداله بشريعة الغاب التي تحمي القوي فحسب؟ وعندما يسكت العالم على احتلال فلسطين سبعين عاما ويتجاهل كافة القرارات الدولية التي تلغي الشرعية عن الاحتلال فماذا يعني ذلك؟ وعندما يتجاهل عالم اليوم القتل العمد الذي يحصد ارواح الفلسطينيين وسواهم من المناضلين فان ذلك دليل آخر على عدم فاعلية «القانون» سواء الدولي او المحلي. وحين يسمح لـ «اسرائيل» بامتلاك مشروع نووي ويسمح له بانتاج اسلحة نووية، ويسمح لذلك الكيان باستهداف البلدان العربية والاسلامية التي تسعى لامتلاك التكنولوجيا النووية، فهل هذا من العدل في شيء؟
ثالثا: ان تطبيق القانون الإلهي يتحقق بوجود جهاز إداري قادر على ذلك بالاضافة لتوفر استعداد نفسي وقبول فردي ومجتمعي بذلك القانون بجوهره وشكله. فالايمان بالله يخلق في نفس المؤمن استعدادا لقبول إرادة الله والاستسلام لاوامره التي يعتبرها «قوانين» مبرمة لا يجوز له تبديلها او مخالفتها. وقد نص القرآن الكريم على اهمية إنفاذ القانون الإلهي: وان احكم بينهم بالحق ولا تتبع اهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما انزل الله اليك». ويحذر التشريع الإلهي من التدخل البشري بهدف التأثير على مسار القانون، فيعتبر ذلك التدخل احد مصاديق «الهوى»: «ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن». فالانسان توفر على العقل، وهذا العقل له دوره الواسع في تدبير الحياة الإنسانية خصوصا في مناطق الفراغ التشريعي، اي المجالات التي تقع خارج النص، والتي يسمح للانسان بتفعيل دور العقل فيها.
رابعا: إن القانون ليس مطلوبا بذاته، بل بما هو وسيلة لاقامة العدل بين الناس وتنظيم حياة البشر وضمان سعادته وتجنيبه الحروب والشرور. فما اكثر جنوح الانسان للحياد عن الطريق وانحيازه إلى هذا الطرف ام ذاك. هذا الانسان هو المتهم بـ «ازدواجية المعايير» وهو احد مصاديق اتباع الهوى. وكمثال على ذلك، وجهت حكومة البحرين اتهامات للشيخ علي سلمان، الامين العام لجمعية الوفاق، أخطرها «التخابر مع دولة اجنبية» الذي قد يؤدي إلى الاعدام. ومبعث هذا الاتهام تعاون الشيخ علي مع مبادرة قطرية في العام 2011 لحل الازمة السياسية في البحرين، تمت بعلم الحكومة. ولكن هذه الحكومة لم توجه للشيخ تهمة مشابهة بالتخابر مع دولة الكويت التي طرحت هي الاخرى مبادرة شبيهة في الحقبة الزمنية نفسها. جاءت المبادرة من امير الكويت الشيخ صباح، كما فعل امير قطر، رغبة منهما في تجنيب المنطقة شرور الصراعات المسلحة. ولكن تلك المبادرات صودرت تماما بمبادرة سعودية ـ اماراتية ادت إلى تدخل عسكري مباشر ما يزال مستمرا حتى الآن. هنا يتحول القانون إلى اداة للقمع لان الحاكم يخضعه لتصفية الحسابات مع الآخرين.
خامسا: إن التجربة البشرية اظهرت هشاشة القوانين التي يضعها الانسان والتي كثيرا ما تفتقد الموضوعية والتجرد. صحيح أن القانون، في فلسفة ارسطو هو «نتيجة نمو العقل الانساني» وأنه «محصلة لتجارب الامم وخبرة المفكرين» وانه يسعى لـ «تحقيق العدالة للجميع»، الا أن التجربة البشرية لم تساهم كثيرا في تقنين الحياة بما يحقق سعادة الفرد والعالم، وربما تمت التضحية بالفرد وحقوقه بدعوى تضارب ذلك مع مصلحة المجتمع. أما هيغل فيرى ان القانون يجب ان يخضع الفرد خضوعا كاملا لسلطة الدولة المطلقة. ومن المؤكد ان هذا سيؤدي لقيام الانظمة الشمولية التي تضحي بالفرد وحقوقه وامنه بدعوى لزوم ذلك لتحقيق المصلحة العامة للشعب. هذا السجال البشري متواصل بموازاة الطرح الديني الذي يعتبر القانون تعبيرا عن ارادة إلهية لضمان تكامل الانسان وسعادته وتحقيق العدل. القانون الإلهي مبدأ مطلق يؤدي إنفاذه إلى تحقيق المصلحة بدون شك، حسب التأكيد القرآني: وان لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا».

د. سعيد الشهابي