التقارير التي أرسلها مراسلو «القدس العربي» أمس في مناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة تقدّم أحوالا مهولة في فظاعتها، وهو ما يفسر هبوط الكثير من الدول العربية نحو ذيل تصنيف حرية الصحافة في العالم الذي تصدره «مراسلون بلا حدود»، كما في التقارير التي تنشرها المنظمات الحقوقية العالمية والمحلية.
لا عجب في هذه الحال حين تتنافس بلدان مثل سوريا ومصر وليبيا واليمن والسودان والبحرين والسعودية مع كوريا الشمالية (التي احتلت المركز الأخير) وتركمانستان وأريتريا ولاوس وإيران على عار الوجود في مؤخرة هذه القائمة، وفي بعض هذه الدول (كما في سوريا التي تحتل المركز 177 من أصل 180) لا يتعلق الأمر بخنق الصحافة وحرية التعبير فحسب بل بالاستهداف المباشر بالقتل (682 قتيلا منذ عام 2011) والسجن (1116 حالة اعتقال تعسفي او اختفاء قسري) والتعذيب، ولم يوفر النظام المذكور النساء والقصّر والصحافيين الأجانب.
لم تقصّر دول أخرى، مثل العراق التي قتل فيها 11 صحافيا خلال العام 2017، وسجلت 375 حالة انتهاك، بينها احتجاز واعتقال واعتداء بالضرب ومصر، التي حبست هذا العام 21 صحافيا، كما تعرض صحافيون لحالات اختفاء قسري وشنت أجهزة الأمن حملات موسعة ضد حرية الصحافة والمشتغلين فيها، والأمر يمكن نقله إلى بقاع عربية أخرى تتراجع فيها الحرّيات ويتعرض الصحافيون لأشكال متنوعة من العسف والاتهامات والإحالة للقضاء والسجن والإساءات.
في المقابل شهدنا في الفترة الأخيرة أمثلة عديدة على قدرة الصحافة في العالم على تغيير الوقائع السياسية على الأرض ومطاردتها لقوى كبرى نافذة ومؤثرة سياسيا، ومنها كشف القناة الرابعة البريطانية وصحيفة «الغارديان» للدور الذي لعبته شركة كامبردج أناليتيكا في سرقة معطيات 87 مليون شخص واستخدامها في دعم انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذلك في دعم حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، وهما واقعتان غيّرتا التاريخ فعليا.
انكشاف عملية التلاعب الكبرى هذه أدّى إلى سقوط الشركة الضخمة وإعلانها إفلاسها أمس، وإلى الضغط الشديد على موقع «فيسبوك» الذي خسر بعد الكشف عشرات المليارات من قيمته وتم استدعاء رئيسه مارك زوكربرغ للتحقيق في الكونغرس والبرلمان البريطاني.
مثال آخر لعبت صحيفة «الغارديان» فيه أيضاً دوراً كبيراً فيه هو كشف مأساة ما يسمى بجيل «الوندرش» الذي قامت وزارة الداخلية البريطانية العام الماضي بإتلاف أوراقهم الثبوتية، وكذلك الكشف أن أمبر رود، وزيرة الداخلية لأيام قليلة خلت، كانت على علم بالأمر وأنها كذبت أمام البرلمان ما دفعها للاستقالة واختيار وزير داخلية جديد من الأقلية الباكستانية المسلمة هو ساجد جافيد. 
يمكن الحديث عن أمثلة خطيرة أخرى كشفت فيها وسائل إعلامية كـ»واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«سي إن إن» أسرارا سياسية خطيرة ساهمت في التحقيقات المستمرة حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، وفضائح ترامب الشخصية، كما أنها فضحت أسرار الكثير من طغاتنا ومستبدينا وحكوماتنا العربية، وأسهمت، بالتالي، في تغيير بعض المعادلات السياسية الإقليمية والعربية.
جدير بالذكر، رغم هذه الصورة العربية السوداء، أن نقول إن الأكلاف الرهيبة التي يدفعها صحافيونا العرب، في دول الطغيان والاستبداد، وأشقاؤهم الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي، لا تذهب هدراً فهي تعلن بقوّة وقوفهم التاريخيّ مع الشعوب المنتهكة حقوقها، ومع السجناء والأسرى والمخطوفين والمعذبين والنساء والأطفال، ومع قيم الحرية والعدالة والتنمية.
لا يجب أن نغض الطرف إذن عن إنجازات الصحافيين العرب وإنجازاتهم الجليلة، سواء كانوا تحت سطوة الطغاة والدكتاتوريات الوحشية، أم كانوا خارج دائرتها، كما هو حالنا، في الصحافة المهاجرة، فهؤلاء جميعا يرفعون سقف الحرية العالي وينظرون بشوق إلى مستقبل تتحرّر فيه الصحافة… والشعوب.