تتداول مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام منشورات كثيرة تحث المغاربة على الانخراط في حملة المقاطعة التي استهدفت ثلاثة منتجات استهلاكية تابعة لشركات بعينها، يحملها دعاة المقاطعة المسؤولية المباشرة عن ارتفاع الأسعار وضرب القدرة الشرائية للمغاربة.

في هذا المقال سأتوقف عند منشور متداول بقوة، وبصيغ متعددة. وهذا نص المنشور الأصلي:

((جاء الناس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: غلا اللحم، فسعره لنا فقال: أرخصوه أنتم، فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقال: اتركوه لهم)).

لا يوجد في كتب التفاسير أي سند يؤكد صحة نسبة هذا الأثر للخليفة عمر بن الخطاب. وقد ورد الأثر بهذه الصيغة لكنه لا ينسب للخليفة عمر، بل للصوفي إبراهيم بن أدهم. وذلك ما ذكره أبو نعيم الأصفهاني في "حلية الأولياء":

((حدثنا محمد بن جعفر المؤدب ثنا عبدالله بن محمد بن يعقوب ثنا أبو حاتم ثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثني بعض أصحابنا قال قيل لإبراهيم بن أدهم إن اللحم غلا قال فارخصوه أي لا تشتروه.))

رغم هذا التوضيح الذي كان لا بد منه فإن المهم في الموضوع لا يتعلق بنسبة الأثر، بل بدلالته. ويمكن لقائل أن يقول: ما الضير في الاستشهاد بالأثر المذكور كوسيلة لترغيب الناس في الانخراط في المقاطعة؟. والواقع أننا لا نختلف في هذا الشأن، إذ إن أغلب رواد مواقع التواصل الاجتماعي يتلقفون المنشور ويشاركونه في إطار الدعاية لحملة المقاطعة بدون أي خلفية إيديولوجية على الأرجح. لكن من الواضح أن من يقف وراء هذا المنشور يستغل الاهتمام الواسع لدى المغاربة بمقاطعة بعض المنتوجات للترويج لخطاب الأسلمة. وهذا يعني أن الخلفية الأصولية هي التي تؤطر هذه الدعوة التي تستدعي الماضي لحل مشاكل الحاضر. وليس خفيا على أحد أن الرسالة التي يراد نقلها من خلال استحضار التراث هي إضفاء الشرعية على مشروع الإسلام السياسي، وهي الخلفية نفسها التي أنتجت شعار "الإسلام هو الحل".

يجب التنويه أولا بأن المقاطعة فعل احتجاجي يعبر عن الرقي والتحضر والمدنية، وينبغي أن تلقى كل الترحيب والاهتمام مادام هدفها المعلن والمشترك هو الدفاع عن القدرة الشرائية للمغاربة. وهذا بغض النظر عن انقسام الآراء بشأن طبيعتها وتوقيتها والجهة التي تبنتها..وهي بذلك تؤشر لثقافة احتجاجية جديدة تعرف إقبالا متزايدا بسبب ردود الفعل الاستفزازية التي صدرت عن بعض الجهات المتضررة من الحملة، والتي استخدمت خطاب التخوين والقدح والاستهزاء بالتصريح أو التلميح... وفي ظل تراجع دور هيئات الوساطة من أحزاب ونقابات وجمعيات، أصبحت سطوة "الفيسبوك" تتزايد بشكل كبير، وتملك قدرة عجيبة على التحكم في الرأي العام وتوجيهه والتأثير فيه؛ لذلك كان وقع المقاطعة واضحا خلال الأيام الأخيرة على النقاش العمومي.

الفعل الاحتجاجي الذي تعبر عنه مقاطعة بعض البضائع ليس موضوع خلاف في حد ذاته، لكن عندما تكون العاطفة وحدها هي الداعي إلى الاستجابة فإن خطر التحول عن المسار يظل واردا بقوة، لأن جهات معينة توظف هذا الانخراط العاطفي للترويج لإيديولوجيتها، واستغلاله سياسيا. وللإسلاميين في هذا المقام باع طويل. والمنشور أعلاه جزء من هذا التوظيف بالتأكيد، لأنه يندرج في إطار حملة لتجييش الشارع وتصفية حسابات سياسية بغطاء اجتماعي وبحمولة دينية تدغدغ العواطف... لذلك فإن الانخراط في المقاطعة ينبغي أن يكون واعيا، ويستهدف مطلب حماية المستهلك وتخفيض أسعار السلع والبضائع الاستهلاكية بدون انتقائية، وبما يراعي محدودية الدخل لدى أغلب الفئات الشعبية؛ وذلك حتى لا يتم استثماره سياسيا من طرف حزب يرفع شعارات إصلاحية، ويتبنى خطابا أخلاقيا، لكنه على مستوى الفعل لا يهتم إلا برصيده الانتخابي الذي يمكنه من الاستمرار في الحكومة، وهو يتحمل كامل المسؤولية في تراجع القدرة الشرائية للمغاربة وتهديد السلم الاجتماعي وإضعاف العمل النقابي وانسداد الأفق بسبب السياسات اللاشعبية التي انتهجها طيلة ولايته الحكومية الأولى، وما يزال يمضي قدما فيها حتى الآن.

ارتفاع الأسعار هو نتيجة مباشرة لسياسات حكومة بنكيران التي رهنت جيوب المغاربة لجشع الشركات الكبرى؛ وذلك بسبب إجراءين أساسيين مهدا للوضع الحالي الذي نعيشه اليوم على مستوى أسعار المنتوجات الأساسية التي تعرف استهلاكا واسعا. ويتجلى الإجراء الأول في إلغاء دعم صندوق المقاصة للمحروقات؛ ذلك أن غلاء الأسعار المحسوس خلال السنوات الأخيرة له ارتباط مباشر بهذا الملف، لأن ارتفاع فاتورة المحروقات تستتبع زيادة في أسعار المنتوجات لتغطية مصاريف نقل السلع والبضائع. أما الإجراء الثاني فيتمثل في نص مشروع القانون رقم: 12.114 الذي أعدته الحكومة، ويتعلق بحرية الأسعار والمنافسة؛ وهو القانون الذي صادق عليه مجلس المستشارين في 30 أبريل 2014 ثم مجلس النواب بعد ذلك في 11 يونيو من السنة نفسها. وإذا كان القانون المذكور يتأسس على قاعدة اقتصاد السوق وحرية العرض والطلب، فإنه لا يحمي المستهلك؛ وهو ما نعيشه اليوم بشكل واضح على مستوى أثمنة المحروقات على وجه التحديد، رغم أن أسعار البترول في الأسواق الدولية ليست مرتفعة.

إن الأوضاع التي هيأت لحملة المقاطعة تجد جذورها إذن في السياسات الحكومية التي بصم عليها "البيجيدي" بوضوح باعتباره الحزب الأول سواء في الحكومة السابقة أو الحالية. ومع ذلك فإن قادة العدالة والتنمية لا يجدون حرجا في استغباء المغاربة والضحك على ذقونهم. ولمن هو في حاجة إلى تأكيد فما عليه إلا أن يقرأ في دلالة المشهد السوريالي الذي يصور مشاركة وزراء الحزب في احتفالات فاتح ماي احتجاجا على إفشال الحوار الاجتماعي وضعف العرض الحكومي!!!...

هؤلاء الذين يملكون قدرة عجيبة على التلون والتحول الحربائي، ولا يجدون غضاضة في ارتداء جبة الدعوي والنقابي من أجل تحقيق مكاسب سياسية، ينطبق عليهم المثل المغربي المشهور: "كيبيعو القرد، وكيضحكو على اللي شراه". أما المقاطعة في حد ذاتها فهي فعل نضالي ووسيلة ضغط مشروعة من أجل العيش الكريم، وتفعيل رقابة شعبية على سوق الاستهلاك، وحماية القدرة الشرائية للمغاربة.

 

محمد مغوتي