تعني الورقة بالعنف، والمقصود هنا، العنف المادي والجسدي، ولا تُعنى بأي شكل آخر من أشكاله وأي لون من ألوانه، أي "لاستخدام غير المشروع للقوة المادية بأساليب متعددة لإلحاق الأذى بالأشخاص والجماعات وتدمير الممتلكات" والعنف السياسي، يتميز، عن غيره من أنواع العنف الأخرى، أنه يتقصد السياسة وملحقاتها.

كما تُعني بالعنف لدى التيار الإسلامي، وليس شيئا آخر. وذلك لأن المفردة اليوم تكاد لا تطلق إلا على الإسلاميين على وجه التحديد.

في البداية نطرح أسئلة لعلها تقودنا إلى تفصيل الموضوع على نحو واضح، هل الإسلاميون وحدهم من يتوسلون العنف في سبيل فرض مشروعهم من أجل الوصول إلى السلطة ؟ هل الخطاب الإسلامي عنيف بطبعه؟ هل قدر الإسلاميين أن يتفق الجميع على شيطنتهم ونسبتهم إلى محور الشر المستطير؟ من أين استقى الإسلاميون فلسفة العنف والتأصيل له؟ هل خصوم الحركة الاسلامية منزهون عن الممارسة العنيفة والتورط فيها؟ من أين استقى الإسلاميون فلسفة العنف ونظرياته؟ لماذا العنف صفة لا تكاد تنفك عن الاسلام وعن الجماعات التي تشعل من أجله وفي سبيله؟

هي أسئلة ومتشعبة ومتشابكة، سنعرض لها في هذه الورقة. وقد حملنا على تناولها ما لمسناه من كون خصوم الحركة الاسلامية وأعداءها، لا يكاد يجمع بينهم إلا العداء لها، فيدعي البعض أن الاسلاميين جميعهم متطرفون وإرهابيون بالضرورة. وأن الفارق بين التيارات والجماعات والتنظيمات التي تنهل في التأسيس لمرجعياتها من الإسلام وتوظفه في مشروعها السياسي، هو فارق في الدرجة وليس في النوع. ويعبر بعضها عن هذه القضية بالقول إنه "ليس بين القنافذ أملس"، وأن جميع أطياف الصحوة الإسلامية والعاملين في حقل التبشير بالإسلام والدعوة إليه يترواحون بين "التطرف والمزيد من التطرف".

وبالرغم من نظرة الآخر الخصيم للإسلاميين والذي يلصق صفة العنف بالإسلاميين، فهذا لا يعني أن الإسلاميين مبرؤون من تهمة العنف واجتراحه، فالورقة تقر أن الحركة الاسلامية تمارس العنف و"تتطرف" في ممارسته، وتعترف أن من صفوتها من يفخر بهذه الممارسة ويعلن عن بطولتها عبر التطرف فيه، ويعترف أيضا أن ثمة من أبناء الحركة الجهادية وعناصرها من يكتسبون قداستهم من خلال "الدم".

غير أننا حين نلتقت إلى الأصول التاريخية للحركة الاسلامية نلفي أنها لم تبدأ مسيرتها الجهادية مباشرة وعلى نفس الوتيرة التي نراها اليوم بشكل واضح والتي يعرفها العربي والعجمي، ويطالع أخبار العنف كل يوم عبر الإعلام. وإنما بدأت مسيرتها على استحياء مستندة على أفكار حاولت أن تقنع الناس بشرعية ممارساتها. ولذلك أصدرت عددا من الأدبيات تناولت فيها حكم النظام الكافر والمرتد في بلاد الإسلام وحكم طاعته وواجب الأمة حيال هذا الموضوع، وحكم الطائفة الممتنعة، وحكم الشرع في أدوات النظام الحاكم من رجال المباحث والشرطة والجيش. هذا كله موجود في الأدبيات المعاصرة ولا سيما بعد هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967 وما نجم عنه من فكر سياسي متطرف يساريا كان أم إسلاميا باعتباره رد فعل على تداعيات الهزيمة.

هذه القضايا التي طُرحت إبان تلك المرحلة العصيبة، عرفت اختلافا، أو قل خلافا واسعا وواضحا بين شيوخ ومنظري العمل الإسلامي في نسخته الراديكالية، حيث تراوحت الفتاوى، في موضوع أدوات النظام، بين وجوب قتالها بالأصالة وجواز ذلك بالتبع، قياسا على الصائل. في حين، اتفقت على أن الحاكم الكافر لا تنعقد بيعته، وأن الخروج على الحاكم المرتد والإطاحة به من أوجب الواجبات.

ونشطت في هذا السياق في طريقها "اللاحب"، ووضعت قاطرتها على السكة، حيث لم تعدم النصوص التراثية التي تدعم بها مواقفها و"تشرعن" بها أفعالها الراديكالية.

وقد لعب رجال الدين المتشددون دورا خطيرا في تطوير هذا المشروع الدموي، وذلك من خلال استلال أحاديث في غالب الظن أنها ضعيفة أو موضوعة، من قبيل" بعثت بالسيف......" و"جعل رزقي تحت ظل رمحي....." و"أُمرت أن أُقاتل الناس...." و....لقد جيئتكم بالذبح" و"أن الإرهاب فريضة في الكتاب والسنة ..." وفق العبارة الشهيرة للشيخ عبد الله عزام الذي كان له القدح المعلى في بلورة مفهوم الإرهاب ومحوريته، في الفكر الجهادي المعاصر. حتى اعتبر أن أي جماعة إسلامية إذا لم تضع الجهاد نصب عينيها فهي ليست بإسلامية تسعى إلى الوصول إلى الحكم لتطبيق الشريعة، أو كما قال.

هذا بالإضافة إلى الفتاوى التي صدرت عن القاعدة،"إن قتل الأمريكان وحلفاءهم مدنيين وعسكريين وقتالهم فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في أي بلد تيسر". وهي الفتوى التي صاغها رفاعي طه في" إماطة اللثام" بقوله "إن الأمريكيين واليهود هم كفار معتدون صائلون على أرضنا وأعراضنا وجب علينا قتلهم في أي أرض كانوا وبأي طريقة أمكن ذلك وأن ذلك واجب على كل مسلم قادر عليه ولا يحتاج إلى إذن أحد فإنه فرض عين لا يسقط عمن قدر عليه وهذا حكم جميع العلماء سلفا وخلفا".

وأن الطائفة المنصورة "هي طائفة علم وجهاد" و"أنها تأكل من فم عدوها".كما يقول أبو قتادة الفلسطيني. وهي الفتوى التي ترجمتها الأعمال الدموية والقاسية التي توقعها جماعة الدولة الاسلامية، والتي وصلت إلى حد الهوس بقطع الرقاب والحرق والتمثيل بالجثث و...إلى ما هنالك، أو ما يجوز وصفه بـ"أعراس الدم" والتي يتم توثيقها بالصوت والصورة من قبل مرتكبيها فخرا واعتزازا.

وهو الأمر الذي حمل بعض المهتمين من الإسلاميين على القول إن الحركة الجهادية اختزلت الاسلام كله في بعده" العسكرتاري" ، وجعلت هذا البعد مهيمنا على جميع قواعده وأصوله وأركانه، وهذا ما لاحظه عمر عبد الحكيم حين نص على ان السلفية الجهادية أخذت من الاسلام ربعه المتمثل في" الإعداد والجهاد" وتركت الارباع الثلاثة الباقية.

والسؤال العريض، هنا، والذي يتعلق بالأسباب التي تقود هذه الجماعات إلى الغرق في هذه الخضم الدموي وهذا التوحش: هل تحول الإسلاميون إلى انتهاج العنف لأنهم مسلمون؟ وهل لأن تراثهم طافح بالتحريض والتجييش للوقوع فيه؟

إن التحليل السوسيلوجي والسيكولوجي يجيبنا أن الارهابي لا يولد بالضرورة إرهابيا، وإنما يصبح كذلك بفعل عوامل بيئية واجتماعية وسياسية مختلفة، فبدهي إذن، أن الإنسان لا يولد إرهابيا أو متطرفا، ولكن الواقع هو الذي يمسخ فيه هويته الإنسانية ويشوه فيه نقاءه وطهارته وصفاءه. حتى أن فيلسوفا: قال إن الإنسان خير بطبعه، ولكن المجتمع هو الذي يفسده !!

والاسلاميون لا يشذون عن هذه القاعدة. فلم يكونوا إرهابيين أو متطرفين منذ البدء، حتى وإن ادعى خصومهم غير ذلك.

إذن من النافل القول إن الحركة الإسلامية لم تتخذ العنف خيارا لها، وظلت مسالمة إلى أن شن النظام الناصري حملة اعتقالات شديدة جرت سبعة عشر ألفا من الإسلاميين إلى السجون والمعتقلات، كما يقول الظواهري ـ والتي تعرضوا فيها لكل ألوان التعذيب وأصنافه، يورخ لها بكتاب البوابة السوداء والتي عرفت إعدام سيد قطب الذي من عباءته خرجت كل جماعات الاسلام النضالي المعاصرة التي لا تملك في الحقيقة تصورا لبدائل الانظمة القائمة، لكنها مصممة وبالحديد والنار على هدم البنية القائمة من أجل "أن يكون الأمر لله وحده ".

من رحم العذاب ومن قاع السجون المظلمة خرج العنف الأسود والأعمى ، وليس من "جنة الفردوس" كما يتصور البعض عن جهل بهذه الوقائع التاريخية والتي تعد سببا لظهور العنف والتطرف والراديكالية.

وى نحتاج إلى التأكيد بأن الاسلام باعتباره دينا وحضارة وثقافة غير مسؤول عن ظهور الحركة الجهادية والدفع بعناصرها إلى التورط في العنف، لأن الإسلام ـفي تقديرنا ليس داعيا إلى العنف ولا محرضا عليه، وإنه من السلام في كل تجلياته وبكل أبعاده.

كما أن التراث الإسلامي، كما يزعم البعض، ليس له دور في تحول الإسلاميين إلى قتلة" و"مجرمين" بالرغم من أن المكتبة ملأى بالكتب الفقهية والفكرية التي تتناول فكرة الخروج على الحاكم ....ومدى جواز طاعة الحاكم الطالح أو الخروج عليه، ومثل هذه لم تؤد قط على مدى نحو اثني عشر قرنا إلى نشأة عنف سياسي منظم في الدولة أو الدول الإسلامية.

وبناء على ذلك ندعي ونزعم أن فصيلا من الحركة الإسلامية دُفع دفعا إلى التورط في هذا الجنون ولا ريب في ذلك.

إن انجرار المناضلين المتحمسين من شباب الحركة الإسلامية إلى العنف لا يجد تفسيره إلا في وجود "عاطفة قبلية تنتج طاقة غضب شديد وعنف إبادي" كما يقول دونالد داتون في سيكلوجيا الابادة الجماعية، وهذه العاطفة القبلية، تجد تفسيرها في الظلم والاحتقار والانتهاك لأبسط الحقوق التي تعود إلى العالم الإسلامي، وتجد تفسيرها أيضا في القتل اليومي الذي يذهب ضحيته المسلمون في كل بقاع العالم، وفي أن المسلمين باتوا مطمئنين إلى أن القانون الدولي يصنعه القوي ويفرضه على الضعاف، وأن هذا العالم الحر لا يحترم إلا ذوي الأحذية الثقيلة كما يقولون.

وبناء على ذلك أمكن القول بأن العنف والإرهاب ليسا من إبداع الحركة الاسلامية، بل إن الكتابات التاسيسية الأولى للحركة الجهادية كانت تتلمس لنفسها الطريق في هذا القاع المعتم انطلاقا من الأدبيات التي خلفتها القوى الثورية العاملة على صعيد العالم، وكانت تفعل ذلك على خجل. ويعتبر تركي الربيعو"أن العنف الثوري الراديكالي الداعي إلى التغيير هو عنف لاحق، انتقلت عدواه من الأحزاب الراديكالية العربية إلى الحركات الاسلامية".

ويلاحظ عبد الاله بلقزيز "أن ظواهر الاحتجاج سابقة في الزمان لظهور تيارات الاسلام الحزبي[وإن كانت] لحظة صعود الاحتجاجية الإسلامية.....هي اللحظة الأعلى في الحالة الاحتجاجية العربية المعاصرة".

إن تناول العنف في الظاهرة الإسلامية ممثلة في داعش، ممكن في كل الفرضيات والاحتمالات إلا في الاسلام، لأن جماعات الاسلام الجهادي تمارس السياسة بغير طهارة وبغير عذرية، ولكنها عاجزة عن التعبير عنها بلغتها ومفرداتها، ولذلك تنكفئ إلى الدين لتستمد منه أدواتها النظرية، من باب الإكراه والاضطرار ليس إلا. إنها تخوض في العنف السياسي، كفعل ينتمي إلى السياسة وتسعى به ومن خلاله إلى تحقيق تطلعاتها في السياسة قد تتدثر بالدين ولكن ذلك، عند التحقيق مجرد زور.

وعلى الرغم من ذهاب البعض[ كعبد الباري عطوان في كتابه عن داعش] إلى أن التوحش، من حيث هو عنف ضروري لنشأة الدول وأن التاريخ حافل بالدول التي تم تشييدها على بحار الدماء وجبال الأشلاء، إلا أن هذا لا ينطبق تماما على تاريخ العنف في الإسلام، حيث لم يشهد التاريخ فاتحين أرحم وأكثر تسامحا من العرب ولا دينا سمحا كما الإسلام كما لا حظ جوستاف لوبون وغيره.

ونخلص في النهاية إلى القول بأن العنف ليس من صميم الخطاب الإسلامي ابتداء وانتهاء، وأن الاسلاميين كغيرهم، يلجأ منهم إلى العنف من ليس له نفس في اللعب وفق قواعد السياسة وشروطها، ومن فقد الأمل في غيره من مذاهب الرشد ونبذ العنف.وأن تورطهم فيه مرده،ـ في جزء منه، إلى اليأس من الديمقراطية باعتبارها تدبيرا رشيدا للتداول السلمي على السلطة، ومرده أيضا إلى أن الإسلاميين جلهم مثقلون بالتاريخ، بآصاره وأغلاله كما هو في النصوص وليس في الواقع، وبالتالي يعتقدون أن "العنف المقدس وحده الكفيل بأن يعيد إلى الأمة أمجاد الماضي.

 

نورالدين الحاتمي