حين زرت بلدي آخر مرة، استشعرت القلقَ الكبيرَ الذي يعتري الأمة (بمعنى الشعب)، وهو قلق غائر، لكنه بدأ يطفو على السطح، وحين يزداد هذ القلق فإنه يصيب كل الدوائر بالتوتر وبالهزات المتصاعدة. ومعلوم أن المغرب وإن بدا عليه استقرار لعدة عوامل، فإنه لا ينبغي أن ننسى ولا أن نتناسى كونَــه في منطقة اضطرابات إقليمية، ودولية مزمنة. وكان مما لاحظته أن كثيرين ممن يُفْتــرَض فيهم دفع الناس إلى الأمل هم أيضا لا يملكون شيئا من أمرهم؛ بل هم من يدفعونهم إلى اليأس والإحباط. وترى الناس كذلك مذهولين، لا يجدون تفسيرا لما يحدث لهم. وليس لنا أن نتهمَ أحدا، ولا أن نوزعَ المسؤوليات حتى لا يصبح في النهاية أحدٌ مسؤولا.

وفي نقاشاتي الكثيرة التي تداولت فيها الرأي مع عدد من شخصيات مسؤولة، وكذا مع الناس أسألهم لقد سمعت كل النقد والشكوى من هذا أو ذاك، ولكن هل هناك شيء يمكن أن نقوم به؟ ما العمل؟ وما الحل؟ فكنت في كل مرة أطرح هذا السؤال أجده مقلقا، وكأني بمستمعي لا يريد سماعَه، بل لا يريد منك إلا أن تسمع لشكواه وبلواه، لكن ليس له ولا من واجبه أن يبْتكِــر حلولا وأجوبة. ويتحمس مخاطَبي إلى التغيير، ولكن لا أحدَ يريد أن يدفعَ ضريبةَ التغيير والإصلاح.

وكنت في قرارة نفسي أقتنع، - وأُجهدها بإقناعها- أن كلَّ من تحدثت إليهم قادرون على الجواب، ويملكون الإرادة، بل والقدرة أيضا، ولكن العادة، والخوف (المؤقت، المتوجس) كانتا بالمرصاد تمنع فعلَ الإرادة وقوةَ القدرة.

وجاءت مواقع التواصل الاجتماعي لكي تكسرَ قواعدَ عالمية، وتقاليدَ الصِّحافة التي كانت تحتكر نقـلَ الخبر، وتصنيعَه، وغربلةَ ما يمكن تقديمُه إلى الناس. وهكذا جاءت حملات كثيرة، تُشَهِّـــر بالفساد، وتقاطع بضائعَ، ومنتوجاتٍ، يرى أصحابُها أنهم يقدمون خدمات للناس، وأن الناس عليهم أن يعترفوا لهم بهذا "الجميل". ولذا فمن الجميل لهم أن يقتـنيَ الناس بضاعتَهم بالسعر الذي يحددونه هُـم، دون مساءلة لجودة ما يقدمون، ولا أن يراعوا قدرةَ الناس الشرائية، وخصوصا الطبقة الفقيرةَ، وما تبقــى من الطبقة الوسطى التي بدل أن تكونَ الإجراءات والسياسات الحكومية هادفة إلى توسيعها فإنها تقوم بتوسيع الطبقات الدنيا وتقوية مجالها. ومما لا يبشر بكون قرب لانفراج أزمات مثل هاته هو تلك الروح الانتقامية من المقاطعين. فهذا الذي يصف الحملة بأنها مجهولة المصدر، وذاك الذي يستخفُّ بتأثيرها لأنها انطلقت عبر العالَم الافتراضي، أو ذاك الذي اعتبر من يقاطع خائنا للوطن، وللفلاح البسيط، أو ذاك الذي وصفهم "بالمداويخ"، أو المعتوهين، أو الذي خرج بفضيحة من موقعه الحكومي فوصفهم بالجوعى.

إن مثل هاته الأوصاف، وبغض النظر عن مصدر الحملة، ومن يقف خلفها، تنِــمُّ عن جـوع تواصلي، ودوخة فكرية وسلطوية مفرطة الجرعة، وعزةً بالإثم تبلغ درجة التُّخْمــة. كان عليه - أو عليهم- أن ينتبهوا، وأن يجتمعوا لإصدار بلاغات تنصت للاحتجاج، وتعرفَ أسبابَه، وتتخذَ ما يلزم في ذلك. لأننا من سخريات السلطة في البلد أنه حين يُنعت فاسد على رؤوس الأشهاد، لا تبحث في المنسوب إليه، بل تتهم مباشرةً من أبلغ عنه، أو من أشار إليه بالبنان. وهذا لعَمـري، يمكن أن يضع السلطة التي من شأنها التوازن، والحياد الإيجابي بين الفرقاء في موضع اتهام، لكونها بهذا السلوك لا تحمي الحقوق، وإنما تتحيز للنهب والخروج عن القانون. وهذا سيؤدي بالتَّبَــع إلى عدم احترام الناس الدولةَ ومؤسساتِها، ورموزَها. ولذا لا يمكن أن نستغربَ عدم حمل البعض العلم الوطني في احتجاجاتهم، وإن كنا نؤاخذهم على ذلك. فالشركات التي ليس لها ذراع إعلامي يتواصل مباشرة مع الناس لمراقبة الجودة، والأثمان، والمستقبل وأخذ آراء زُبنائها بعين الاعتبار، تحسينا للأداء والخدمات، لا يمكن أن تستمر ولو كانت مدعومةً بأقوى سلطة في البلد، أو مردوفةً بشبكة المصالح والتصاهر. لذا، وجب أن تغير شركاتنا الوطنية نظرتها للناس الذين تتعامل معهم، من نظرة استصغار واحتقار، إلى نظرة الاعتبار والاحترام. فالتوازنات التي تبدو اليوم أنها بدأت تميل لصالح الأمة، أتت من تقصير التأطير، والدفاع عن مصالحها. فمؤسسات التشريع لم يعُـد لها من قضية سوى تسوية تقاعدات البرلمانيين، والحكومة التي يمكن أن تكون حكما بين العملاء والشركات لم نـرَ لها أثرا، والنداءات التي ينادي بها المعذبون على خازن النار، لم تكن إلا في غرور، مما اضطر الناسَ إلى أخذ زمام المبادرة بأنفسهم، لأنهم تأكدوا أن مبدأ "اذهب أنتَ وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون" لم يعُــد يُجْــدي نفعا، مما جعل المقاطعةَ بالنسبة إليهم فرضَ عين، ولم يعد فرضَ كفاية، أي لا بد من استعادة استقلال الأمة، وكرامتَها، بتأديب السلطوية التي فاض كيلُ غِسْلينِها وزقّـومها على البلاد وعلى من يقيم فيها.

إن الذين قاطعوا هاته المنتجاتِ إنما أرادوا رسالة أن تصل، مفادها هو استقلال الأمة عن الدولة، مع الحفاظ على اللحمة الوطنية. فالرسالة التي يمكن أن نستخلصَها هي أنه لا بد من تعاقد اجتماعي جديد، وجب أخذه بعين الاعتبار، ومن ذلك أن الثروة والسلطة وجب علمنتُهما، بمعنى فصل السلطة عن الثروة، مثلما يطالب المجتمع بفصل الدين عن السياسة، بعدم إقحام الدين في السياسة، وعدم إقحام السياسة في الدين. أي بفصل منهجي مؤسسي، ومدار ذلك هو تقوية الحريات الفردية والجماعية، حتى يجد البلد متنفسا جديدا. متنفسٌ يأخذ بعين الاعتبار كرامة الناس وأمنهم بأنواعه الغذائي، والمعرفي، والاستراتيجي. إذ لا يمكن أن نتصور أن بلدا يضيق لقمةَ العيش على مواطنيه أنه سيحمي أمنَهم واستقرارَهم، بوسائل تدمر هذا الاستقرارَ والأمنَ المنشودين، وذلك من خلال التفقير والتجهيل، وتسفيه الثقافة وتزييف الوعي.

وختاما، إن مبادرة المقاطعة تستحق الدراسة والاهتمام، وتعطي فرصةً لتدخل الدولة للحد من المطامع والجشع الإقطاعييْن، حتى لا نقول الرأسمالي، لأن الاحتكار جريمة في الفكر الليبرالي والرأسمالي؛ كما أنها تعطي نتيجة استفتاء شعبي لا لُبْـس فيه أن البيادق المختارة من النخب لقيادة البلاد وجب أن يكونوا من ممارسي السياسة لا من التقنوقراط الذين أبانوا لحد الآن عن كفاءة مهنية، لكن لم يستطيعوا إخفاءَ غبائهم السياسي والاستراتيجي، لأن نتائج التقنوقراط تكون في أغلب الأحوال كارثية تؤدي إلى نقض ما غـزلــوه من نجاحات وكفاءات تنحصر في تخصصهم ولا تتعداه.

وأبانت هذه المقاطعة عن أن المجتمع يحمل في دواخله مناعةً تحميه عند المُلِمّات، وأنه على الرغم من تدمير مقوماته عبر الوسائل المعلومة، فإن العقلَ الجمْعي لا يمكن الوصول إلى خدشه ولا القضاء عليه، إنه الضمير الأعلى للأمة. وأن الأمة ترد بما يناسب وفي الوقت المناسب. وبينت هاته الخطوة الحضارية السلمية والمدنية أنها باتت تعتبر أن القضية قضيتَها، وأن وكلاءها المتقاعسين من السياسيين والنقابيين ومن المجتمع المدني إنما شربوا من نهر طالوت وارْتَــوَواْ، ولم تكْفِــهم غَــرْفــةً واحــدةً: لذا، فلسان حالها يقول: " شرِّعوا لتقاعداتكم وريعِكـم، فأنتم متقاعدون من أول يوم؛ فالأمر ما عاد يعنيكم، بل يعنيني وحدي، وأنا الأمةَ قادرةٌ على المواجهة، بكل حرية وسِلْم."

إن الذي لا يقــرأ التاريخ غالبا ما يكرر أخطاء الماضي، ولذا، عليه أن يخـرجَ من دائرة الضوء السياسي.

يوسف بن الغياثية