اضطلعت وسائط الاتصال الاجتماعي بدور هام في مجال التعبئة لمقاطعة عدد من المنتوجات والمساهمة الفعالة في تشكيل وتوجيه الرأي العام الذي يعد عنصراً مؤثرا خاصة في الميادين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، لارتباط الرأي العام بالتعبيرات العلنية، والواضحة عن رأي ما، مع وجود تأييدٍ واسناد شعبي له.

فبغض النظر عن تداعيات حملة مقاطعة بعض العلامات التجارية في قطاع التغذية والطاقة، وتراوح المواقف بشأنها ما بين مؤيد ومعارض، فإن هذه الحملة التي بدأت على منصات وشبكات التواصل الاجتماعي تشكل دليلا قاطعا على أهمية الرأي العام وقوته في التأثير على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية.

وفي غياب دراسات علمية أو إحصائية لانعكاسات وإسقاطات هذه الحملة التي بدأت على منصات وسائط التواصل الاجتماعي، فقد مست شرارتها جمهورا واسعا من جميع الفئات والجهات وتفاعلت معها كافة الحساسيات والفاعلين من مختلف مواقعهم وطبقاتهم، بالتعليق وإبداء الرأي حول دعوة مقاطعة مواد ومنتجات بعض الشركات بدعوى ارتفاع أسعارها واحتكارها.

وإذا كانت هذه المبادرة تمرينا وتجربة غير مسبوقة في أساليب الاحتجاج والرفض المعتمدة في التواصل السياسي، فإنها برهنت بالملموس عن محدودية ومهنية المكلفين بمهام التواصل والتسويق، وأكدت بما لا يدع مجالا للشك قصور الفاعل السياسي ومؤسسات الوساطة من هيئات سياسية وهيئات نقابية ومنظمات المجتمع المدني، خاصة المهتمة بحماية المستهلك.

فعوض أن تثير هذه الحملة نقاشا عموميا، خاصة الإعلام ومنه المرتبط بتقديم الخدمة العمومية، كما هو الشأن في الأنظمة الديمقراطية حينما تطفو قضايا من هذا القبيل على السطح أو تستأثر باهتمام الرأي العام، تمت الاستعاضة عن ذلك باللجوء إلى نظرية المؤامرة وشيطنة الآراء المعارضة؛ وذلك عبر التساؤل عن الواقفين وراء هذه المبادرة وإشهار عدة أسلحة منها "سلاح الوطنية والتخوين"، في وقت كان من الأجدر التفاعل الايجابي مع المطالب التي يتم رفعها في هذه الحملة التي نقلت المضمر إلى العلن من خلال الإبحار في العالم الافتراضي الذى يتيح حرية أكبر.

فقد أبانت هذه الحملة بالملموس أنه مازال بمقدور المغاربة إبداع أساليب من شأنها التأثير في الرأي العام وتحويله من قوة سالبة إلى قوة ضاغطة لمواجهة كل أشكال الريع الاقتصادي والسياسي والتأثير على أصحاب القرار للتراجع عن مشاريع يمكن أن تمس مصالحه. وهذا ما سيجعله قوة حاسمة لقلب كافة المعادلات، انطلاقا من أن الرأي العام يعد تعبيرا لجماعة أو جمهور أو مجتمع معين عن رأيه أو مشاعره أو معتقداته أو مواقفه أو اتجاهاته حول قضية تهمه أو مشكلة تؤرقه ويتفاعل معها ومع تداعياتها لتأثيرها على نمط حياته في فترة معينة.

كما أن الرأي العام يمثل في حقيقة الأمر صورة من صور السلوك الجماعي للآراء التي يعبر عنها أفراد الجماعة، سواء من تلقاء أنفسهم أو بناء على دعوة توجه إليهم، تعبيرا مؤيدا أو معارضا لحالة محددة أو شخص معين أو اقتراح خاص، مع ما يترتب عنه من احتمال القيام بسلوك مباشر وغير مباشر خاص، وكذلك هو محصلة آراء أفراد الجماعة.

فعوض اللجوء إلى أساليب الشيطنة والادعاء بأن "دوافع سياسية" و"استهدافا للاقتصاد الوطني" و"خلق التفرقة بين المغاربة" وراء حملة المقاطعة للعلامات التجارية المستهدفة، يتعين الانكباب على الوسائل الكفيلة بالقطع مع سياسات الريع الاقتصادي والسياسي، وتفعيل أدوار مجلس المنافسة لمنع الاحتكار والالتزام بقواعد وشروط المنافسة التي تقتضيها متطلبات السوق.

فحملة المقاطعة لا تعدو في النهاية أن تكون إلا أسلوبا حضاريا للاحتجاج على أوضاع معيشية، مما تشكل مؤشرا صحيا عن رأي عام حي حيوي ويقظ، مقابل هيئات وساطة أصابها الصمم والترهل، وفقدت زمام المبادرة والاستقلالية وأيضا البوصلة التي كانت تهتدى بها في معانقة حاجيات ومطالب ساكنة أضحت أكثر من أي وقت مضى موجهة للرأي العام ومؤثرة فيه. مجتمع قرر أن يأخذ قراره ويحدد مصيره بنفسه للتعبير عن آرائه وفرض مطالبه وإسماع صوته، مستفيدا من الامكانيات التي تتيحها الثورة الرقمية، ومنها وسائل الاتصال الاجتماعي، في عمليات التعبئة، وبالتالي التأثير في عملية صناعة القرار السياسي والاقتصادي.

فليس المهم هو أن نضيع الوقت في البحث عن جواب حول من أطلق هذه المبادرة؟ أو من معها؟ أو من هو ضد المقاطعة؟ لكن الأهم والمفيد هو الانتباه إلى فعالية الوسائط الجديدة في تشكيل الرأي العام وفق ما تتطلبه مقتضيات القرن الواحد والعشرين، ومنها الانصات إلى نبض الشارع والتجاوب مع تطلعات المواطنين وتحقيق مطالبهم في العيش الكريم. فالرأي العام المصدر الأول للضبط الاجتماعي، تمكن بهذه الحملة ليس فقط في الرفع من منسوب الاحتجاج وتحديث أساليبه، بل استطاع استعادة "وعه الشقي"، حسب ما كتبه المفكر عبد الكبير الخطيبي في مؤلف" النقد المزدوج".


 

جمال المحافظ