موت السياسة وموت الأحزاب حقيقة ماثلة في مصر اليوم، لكنها ليست قدرا مكتوبا على الجبين، ولا هي من طبائع التكوين المصري كما يروجون، وتلك عقدة لن تحل بمناقشات عبثية دائرة الآن، وزادت وتيرتها بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
وتحمس بعضها لفكرة إنشاء «حزب دولة» جديد، أو «حزب للرئيس»، مع أن الرئيس نفسه قد لا يكون مستريحا لاختيار فات أوانه وبهتت جدواه بعد ثورتين.
وقد لا يجادل أحد في حيوية المصريين الهائلة، وهذه ظاهرة تفاجئ منكريها دائما، ويتجلى فيها سحر المصريين، الذين قادوا الثورة الشعبية الكبرى في 25 يناير 2011، وموجتها الأعظم في 30 يونيو 2013، وفي جولات أخرى سبقت ولحقت، تدفقت فيها عشرات الملايين إلى الشوارع والميادين، في تحرك سلمي جبار، لم يصل بعد إلى غايته المثلى، ليس بسبب نقص في الحيوية السياسية للمصريين، ولا بسبب هجران المصريين الخلقي للسياسة كما يدعون، بل لسبب آخر أكثر وضوحا، هو أن حركة المصريين السياسية بدت شبه تلقائية، وأقرب إلى تلبية دعوات منها إلى اتباع قيادات.
فلم تصادف الثورة المصرية حزبا يشبهها في الميدان، يقدر على الانتقال بها من صخب الميدان إلى صنع القرار في البرلمان، وظلت أسيرة لصور من التحايل باسمها، ولحروب أقنعة أشبه بالحفلات التنكرية، تنتحل فيها جماعات من الثورة المضادة صفة الثورة نفسها، وعلى طريقة انتحال الإخوان واليمين الديني لصفة ثورة 25 يناير، أو انتحال جماعات فلولية لصفة الهبة في 30 يونيو، بينما كانت جماعات الدعوة للثورة، من نوع «كفاية» وأخواتها و»تمرد» وأخواتها، قد ذابت قوتها مع تحقق دعواتها، فأدوارها كدور «ذكر النحل»، الذي يلقح الملكة فيموت، بينما لم يعقبها سعي جدي لإنشاء حزب للثورة اليتيمة، يتقدم لقيادة حركة الناس من أطوار الاحتجاج إلى مراحل التغيير، ويعيد تشكيل المشهد السياسى الأمامي، الذي ظل حكرا لجماعات مصالح معادية للثورة بطبيعتها، تملأ قلوب الناس بالغيظ والقنوط والحسرة، اللهم إلا في حالات مواجهة مخاطر تهدد سلامة الكيان الوطني المصري، وعلى طريقة الإجماع الشعبي في تحدي مخاطر الإرهاب واجتثاث جماعاته، وهو ما تحقق فيه نجاح لا تخطئه العين البصيرة.
وبالطبع، فليست مسؤولية الدولة أن تنشئ أحزابا، ولا هي مسؤولية الرئيس، فالأحزاب لا تنشأ بإرادات فوقية، والسياسة لا تحيا من مواتها بقرار جمهوري، وإلا نكون كررنا عبثا اتصل على مدى أربعين سنة، بدأت بقرار الرئيس السادات إنشاء منابر، فأحزاب ثلاثة أواخر عام 1976، لم يكن القصد فيها خلاصا من وضع التنظيم السياسي الوحيد «الاتحاد الاشتراكي العربي» وقتها، ولا التدرج في طريق تعدد الأحزاب، بقدر ما كان القصد تسويغ ما جرى بعد حرب أكتوبر 1973 بالذات، وإكمال مظاهر الانقلاب على اختيارات ثورة 23 يوليو 1952، وإزالة أي صور ديكورية قد تنتسب إلى مواريثها، وبدليل أنه جرى استنساخ فكرة التنظيم الواحد في صور أخرى، يلصق فيها اسم رئيس الدولة على رأس حزب، تهرول إليه جماعات المنتفعين، وعلى طريقة «حزب مصر العربي الإشتراكي»، الذي سرعان ما جرى تجاوز اسمه، بسبب الدلالات الرمزية لكلمات مثل «العربي» و»الاشتراكي»، وهي إشارات لم تعد مطلوبة بعدما كان جرى وقتها، من انتفاضة الشعب المصري الأخيرة ضد حكم السادات في 18 و19 يناير 1977، ثم مواصلة الانقلاب على ثورة 1952، بانفتاح السداح مداح، وتكوين طبقة القطط السمان، ووضع البلد تحت وصاية الأمريكان، وانفتاح اليمين الديني المدعوم بفوائض «البترودولار» الخليجية، وصولا إلى عقد ما يسمى معاهدة السلام مع إسرائيل، وكلها أوضاع شجعت على إزالة ما تبقى من أقنعة والخلاص من ألفاظ قد توحى بنسب ما إلى الثورة المغدورة، وقرار السادات إعادة تسمية حزبه باسم «الحزب الوطني» على سبيل النكاية من معنى الوطن نفسه، وتعديل نص الدستور المقيد لمدد الرئاسة، وجعل تجديدها وتمديدها جائزا إلى آخر نفس في الروح، وهو ما لم يستفد به السادات شخصيا مع اغتياله في حادث منصة 6 أكتوبر 1981، وترك الجمل بما حمل لخلفه مبارك، الذي واصل رحلة الحزب الواحد برئاسته، وجعل الحكم له تلقائيا ودائما، وقنن عبث التعدد الحزبي الصوري، وأعطى لثلاثة أحزاب معارضة حصصا و»كوتات»، تفاوتت بحسب تقلبات ميول الرضا السامي.
ثم أضاف لحساب «الكوتات» حصة تزايدت لتيار اليمين الديني، الذي واصل انتفاخه المرضي على السطح السياسي، وعلى أن يبقى كل طرف في مكانه، ويبقى الحكم حكرا لحزب الرئيس، الذي تحول إلى صناعة خاصة لجهاز مباحث أمن الدولة وقتها، وبتداخل وتعاون مع طبقة مليارديرات النهب الجدد من حول بيت الرئاسة.
وبتحول تنامى مع النصف الثاني لحكم مبارك الذي امتد لثلاثين سنة، كان جوهره تحولا عائليا في الرئاسة، فرض دورا توريثيا لجمال مبارك، كانت نهاية قصته في ثورة 25 يناير 2011، وبطريقة كشفت خواء وعبثية شبح حمل اسم الحزب الوطني، فلم يستطع الحزب ـ إياه ـ تحريك حجر في الشارع، اللهم إلا على طريقة «موقعة الجمل» الفاضحة لخيبة الأمل، فقد تحرك الشعب، وركل بقدمه الشريفة قوائم حكم مبارك الأب والابن.
كانت تلك نهاية قصة الحزب الواحد، وبقرار شعبي نهائي بات لا يحتمل النقض، أيده القضاء المصري بحكم حل ما كان يسمى «الحزب الوطني» تماما، كما أيد حل «حزب الإخوان» بعد 30 يونيو 2013، فقد كان الحزب الوطني والإخوان صنوان متنافسان، توازى حضورهما على مسرح الحوادث المصرية في الفترة التاريخية ذاتها، وفي ظروفها ذاتها، صحيح أن جماعة الإخوان عمرها الآن تسعون سنة، لكنها تضخمت، كما لم يحدث في تاريخها لا من قبل ولا من بعد، بمعية حكم السادات فمبارك، وقد جرى تقاسم الأدوار وظيفيا، فكانت كراسي الحكم لجماعة النهب، بينما تركت كراسي المجتمع لجماعة اليمين الديني.
وبعد الثورة، جرى تبادل الأدوار، وكأن الثورة قامت لتحكم الثورة المضادة، وهذه هي المفارقة الصادمة، التي ما من فرصة لتجاوزها، سوى بإطلاق سراح المجتمع، وإخلاء سبيل السياسة، وإتاحة فرص التنفس بحرية، وتفكيك القيود على حريات ثلاث، حرية التنظيم وحرية التعبير وحرية الحركة، ليس باصطناع أحزاب، وفرضها على الناس، ولا بالعودة إلى تكرار دعوات ضالة، من نوع إنشاء حزب دولة جديد، لن تكون صورته أفضل من سلفه الحزب الوطني، ولن يختلف مصيره أبدا، وربما يفسر ذلك بعض ما يجري، من نوع تردد الرئيس ـ وربما إحجامه ـ في قبول الدعوات الملحة من جماعات المصالح، فما كان قبل الثورة لا يصح عوده بعدها، خاصة بعد ما تكشف من سوء المصائر.
وأسلم الطرق دائما هو الخط المستقيم، وقد مرت مصر في السنوات الأخيرة بفترة إرهاب وحشي لا ينكرها سوى العميان، واستدعى ذلك أوضاعا طارئة، من نوع مضاعفة نفوذ أجهزة الأمن، والفرض المتكرر لحالة الطوارئ، وقد آن لمصر أن تتخفف من ذلك كله، حتى لو جرى التخفف بالتدريج، خصوصا بعد النجاح اللافت للجيش المصري في عملية سيناء، وتقدم العمل لاقتلاع شتلة الإرهاب الرئيسية، وبتأييد شعبي واسع، وهذه تطورات قد تشجع على تفكيك بعض أحوال الطوارئ، وربما الاكتفاء بتشديدات وتغليظات جرت على نصوص قانون مكافحة الإرهاب، وبلورة تمييز فاصل بين الإرهاب والسياسة، ووضع خطوط حمر متفق عليها، لا يقبل فيها أحد تسامحا ولا تصالحا مع الإرهاب وجماعاته، فالسلاح لا يواجه بغير السلاح، وخطط الإرهاب لا تواجه بغير محاكمات عادلة ناجزة، وبتغيير اجتماعي اقتصادي على مدى أطول، تدعمه عملية إحياء لموات السياسة، وتفكيك الاحتقان السياسي، والمبادرة إلى إصدار «قانون عفو عام»، ينهي مظالم تراكمت بالقصد، أو باختلاط الظروف، ويطلق سراح كافة المحتجزين بالسجون من غير المتهمين في عنف وإرهاب فعلي، وينطوي على «جبر ضرر» كافة الضحايا بدون تمييز، وقد سبق للرئيس أن أصدر قرارات عفو عن مئات، والمطلوب تطوير المبادرات، وإطلاق سراح آلاف من غير المتهمين بإرهاب فعلي، وبمقدور الرئيس أن يفعلها، وإن كانت في ذاتها ردا لحقوق، وليس إحياء للسياسة بالضرورة، فثمة خطوات أخرى، نظن أنها ممكنة وواجبة، إنهاء لحالة انسداد الأفق، وفتحا للمجال العام، أولها ـ بالبداهة ـ رد الاعتبار للدستور، والتقدم من وضع السلطة القابضة إلى وضع النظام السياسي، والدستور ـ لاغيره ـ هو جوهر النظام السياسي، واستسهال العبث بالدستور انقلاب على النظام السياسي، وسوابق العبث بالدستور تشي بمصير اللواحق، بينما احترام الدستور هو طريق السلامة، فلا معنى مقبول لكلام عن تعديل دستور قبل تطبيقه الملزم، وفي الدستور الحالي ما يكفي من ضمانات، يوفر تطبيقها حريات التعبير والتنظيم والتحرك مع الناس، وبكافة الوسائل السلمية الدستورية، فالأحزاب لا تنشأ بقرارات من فوق، ولا تنشق ولا تندمج ولا تختفي بقرارات دولة، وكلما كانت الأحزاب كائنات شعبية طليقة حرة، زاد الطلب على السياسة وصناديق الانتخابات، وزادت فرص التداول السلمي، وصارت السياسة نعمة لا نقمة ولا جريمة.

عبد الحليم قنديل كاتب مصري