الحديث عن "القوة الناعمة" هو دليل وإقرار بوجودها في الماضي القريب بنسب قوية، وفي الحاضر بنسب متوسطة لكي لا نقول ضعيفة. فبالرغم من نفحاتها المصلحية التي ميزت وتميز وستميز العلاقات ما بين الشمال والجنوب، فلا أحد يمكن له أن ينكر مزاياها على حياة البشرية كونيا. لقد مر العالم من عدة منعطفات، خلقت تحولات عميقة في بنيات الدول والمجتمعات، تحولات سياسية واقتصادية وثقافية كان وراءها لا محالة استراتيجيات مدروسة، تعتمد تكتيكات متباينة حسب الظرفيات والمستجدات التي تميز كل مرحلة عن أخرى، مراحل قد يكون بعضها متجانس والبعض الآخر متناقض، أحدثت تطورا نوعيا بدون أن تتسبب في انزلاقات دائمة مؤيدة للانغلاق على الذات، ومكرسة لتفاقم العداء والكراهية ما بين شعوب العالم. على عكس ذلك، استمر شعار الانفتاح الثقافي والدبلوماسي حيا، وقابلا للانتعاش حتى في وضعيات المآزق والأزمات، بحيث ميز كل مراحل تنفيذ الإستراتيجيات المحكمة المتبعة في كل بلد محسوب عن القوى الدولية القيادية الفاعلة في مسار التطور العالمي بمختلف أوجهه،.

الواضح اليوم، أن سكان دول الشمال يعيشون في رفاه لا يقارن بواقع سكان دول الجنوب. يعيشون هذا الوضع، المشوب بمستويات مقبولة من السعادة والمتعة، بالرغم من كون أجيال عديدة من شعوبها عاشت في السابق تحت سيطرة الكنيسة لعقود، وضحية لمتاهاتها، إلى درجة تدنى من خلالها مستوى الوعي الشعبي الشمالي لتتحول ظاهرة الإيمان بصكوك "الغفران" إلى علامة معبرة على مستوى الاعتقاد الديني المنحط. كل المؤرخين يعترفون اليوم بما بذلته النخبة الأوروبية من جهود مستمرة في الزمن والمكان، وتمكنت من إعطاء الانطلاقة لمسار التحديث، ليحتل مكانة بارزة في التاريخ البشري، مكانة غطت عن مآسي الماضي ومصائبه. الكل يتذكر مشروع الاستشراق وكيف تم إعداده والاستعداد لتنفيذه بخطى ثابتة، ليليها بعد ذلك بروز ما سمي بالحركات الامبريالية. بالطبع كل مرحلة تاريخية، تكون خاضعة لخطط جيواستراتيجية وتكتيكات متنوعة، والتي طال الزمن أو قصر تصل، جراء تطور الوعي المجتمعي، إلى الباب المسدود، بحيث يكون دخولها إلى مرحلة استنفاذ قواها الكامنة (potentialités) مصيرا حتميا. كما تبين تاريخيا أن كل مراحل التراجع لا تدوم طويلا، لأن صفتي التجديد والتفوق عند الإنسان يعتبران غريزتان نفسيتان أساسيتان. إن العزائم تتجدد لتعطي الانطلاقة لمسارات جديدة، بخطط ناضجة مليئة بدروس وعبر الماضي، وقابلة للتنفيذ. هكذا، فبعد كل مسار من التفاعل الفكري والفلسفي، تسود أوضاع بطبيعة معينة. فمرحلة بروز كارل ماركس مثلا جعلت من العمال جيوشا تم تنظيمها على أساس إيديولوجية جديدة، بعدما كانوا في وضعيات استغلال من طرف الكنيسة والرأسمال. لقد برز شخص لينين وماو في هذا المنعطف، واشتد التفاعل الدولي إلى أن وصل إلى درجات قصوى من الاحتكاك السياسي، والذي تسبب في نشوب ما سمي ب"الحرب الباردة" والحروب ب"الوكالة" في سياق انقسم فيه العالم إلى معسكرين، لكل منهما وسائله الخاصة لترويج قيم إيديولوجيته السياسية والفكرية والشعارات المرتبطة بها.

ومع بروز نجم هتلر ونزعته النازية، تبين كذلك أن التقاطب الدولي، بالرغم من الصراع الذي يميزه، قد رفض رفضا تاما النزعة العرقية الألمانية المتطرفة، ليكون ذلك دافعا كافيا لاشتعال نيران الحروب ليتكتل العالم بأسره ضد الألمان. لقد عرف العالم في تلك المرحلة، كما هو الشأن اليوم في سوريا، ما يسمى بالأرض المحروقة، لتكون النتيجة آنذاك انهزام الفكر النازي اللاإنساني، ليتشكل على إثر ذلك منتظم دولي على أسس جديدة مقارنة مع الماضي. إن طبيعة موازين القوى الجديدة كانت وراء خلق

منطق جديد لتدبير العلاقات الدولية في التعاطي مع المستجدات، منطق فرض واقعا مختلفا حول الأمم المتحدة إلى مؤسسة ببنية في خدمة المنتصرين.

لقد تم هدم جدار برلين، وتحول الاتحاد السوفياتي إلى دولة روسيا، ودخل النظام الشيوعي الصيني إلى اقتصاد السوق، وأصبح من أكبر المدافعين عن المنظمة العالمية للتجارة ... وتمت التضحية بالنظام العراقي بسبب ضعف روسيا (عراق صدام احسين) ... وبرزت التيارات الإسلامية بشقيها السني والشيعي في العالم ... وتدخلت "دول القوة الناعمة"، المحكومة بشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، في الاقتصاد النيوليبرالي لتخفيف الأزمات الاقتصادية والمالية ... وعادت روسيا إلى معترك الشرق الأوسط وآسيا بمقومات اقتصادية وعسكرية جديدة.... وحل ما يسمى بالربيع العربي في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا .... وتطورت الأوضاع الإقليمية لنصل اليوم إلى حدث بارز دوليا يخص دولة فرنسا تحت حكم حركة إلى الأمام. فعلا لقد قرر ماكرون، رئيس دولة الأنوار، فرنسا، الرائدة في مجال الدفاع على قيم القوة الناعمة، زيارة الرئيس ترامب في البيت الأبيض، رئيس الدولة القيادية للقطب الواحد ما بعد زمن الحرب الباردة، أمريكا، بلد العم سام. إنها زيارة يأمل من خلالها الديمقراطيون في العالم أن تكون منعطفا يتم التعبير من خلاله عن الإرادة الغربية للعودة بقوة إلى معترك الدفاع على قيم "القوة الناعمة" في إطار الصراع الكوني الجديد الذي تجري أطواره بالشرق الأوسط وآسيا بشكل عام، وفي سوريا وكوريا الشمالية بشكل خاص

إن هذه الزيارة، التي برمجت في هذا التوقيت بالذات، يمكن أن تكون تكتيكية، تضاف إلى التكتيكات السابقة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مبادرة دبلوماسية معزولة. على عكس ذلك، يطمح الديمقراطيون أن تكون حدثا مدروسا يندرج في إطار إستراتيجية غربية بسيناريوهات مستقبلية محبوكة. ... لقد برزت ظاهرة استعمال الأسلحة الكيماوية، وبرزت معها تهديدات وتخوفات من تحويل هذه المواد إلى أسلحة في يد حركات إرهابية جديدة واستعمالها على نطاق واسع... لقد تم ضرب أهداف سورية وتم اعتبار ذلك بمثابة رد فعل غربي على تكرار مثل هذه الممارسات الحربية المحظورة أمميا... لقد تم اعتماد سياسة الأرض المحروقة في سوريا، وتم قصف الأراضي التي توجد تحت سيطرة المعارضة بقوة من طرف نظام الأسد مدعوما بالقصف الجوي الروسي، وتم التفاوض مع جيش الإسلام في شأن تسهيل خروج المقاتلين والمدنيين عبر ممرات آمنة في اتجاه عفرين التي غادرها الأكراد بدون مقاومة الجيش التركي، ولازال القصف سيد الموقف للضغط على المعارضة لتوجيهها إلى جرابلس الواقعة على الحدود مع تركيا (اعمار الشمال السوري بمزيج من العرب والأكراد) ...

من ناحية أخرى، لا زالت إسرائيل تضغط بكل "لوبياتها" في العالم من أجل تثبيت وجودها كوطن وتتجاوز الطابع الظرفي لوجودها والذي توصف من خلاله كونها "حصن". أما إيران، قائدة الثورة الإسلامية الشيعية، فتعتبر بلا شك الحاجة إلى مناهضة سيطرة التيارات الإسلامية الموالية للغرب على سوريا بمثابة حياة أو موت. لقد حاولت إسرائيل السيطرة على جنوب لبنان والنيل من قوة حزب الله، فتراجعت لكي لا نقول فشلت فشلا ذريعا مع شاع في مختلف المنابر الإعلامية. إنه وضع إقليمي مأساوي، ترتب عنه وضع مكن روسيا من إيجاد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط، خاصة بعدما تحول الصراع القومي العربي الإسرائيلي إلى صراع عقائدي ما بين السنة (العرب) والشيعة (إيران).

إن المتتبع للأحداث لا يمكن أن لا يضع تحت المجهر زيارة ماكرون لترامب، باحثا وراء ذلك عن مؤشرات ترقى إلى مستوى خلق نوع من الاطمئنان لدى الديمقراطيين في العالم، اطمئنان يؤكد لهم أن الصراع ما بين رواد القوة الخشنة ورواد القوة الناعمة قد انطلق، وسيحتد مع مرور الأيام في صالح النعومة لتحل الدبلوماسية التفاعلية مكان الحروب المدمرة، ويحل الانفتاح والتسامح محل الانغلاق والإرهاب ... إنه الأمل في رؤية عالم جديد يزخر بالأنسنة على أساس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

ما من شك إن العالم قد جرب تفعيل عدة خطط وبرامحج في مجال العلاقات التي تربط دول الشمال بدول الجنوب، لكنه لم يجرب الاستثمار في تحقيق سعادة الإنسان الجنوبي، خاصة في هذا المنعطف التاريخي الذي يمتاز بوجود هوة حضارية وتكنولوجية وعلمية ما بين الشمال والجنوب. لقد صرح ماكرون أنه لا يتوفر الآن عن خطة بديلة للاتفاق النووي مع إيران، ودعا ترامب إلى عدم مغادرة سوريا والعمل سويا من أجل السلام ومواجهة الديكتاتورية والإرهاب في العالم. لقد اجتمعت الدول السبع من أجل اتخاذ موقف موحد من روسيا والدفاع على "ديمقراطيتهم"، وانعقد مؤتمر المانحين لدراسة الزيادة في دعم اللاجئين السوريين... فلنتابع وكلنا أمل أن يصبح السلم والسلام عقيدة في العالم بأسره.



الحسين بوخرطة