في الوقت الذي استبد الوهن بالمعارضة وأفقدها حيويتها، وبعد أن ترحم المغاربة على زمنها الذهبي، الذي كانت تستمد فيه قوتها من الإيمان بالديمقراطية والمبادئ والقيم الأخلاقية وروح المواطنة ونكران الذات، في سبيل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية ورفعة الوطن... فاجأ الجميع يوم السبت 21 أبريل 2018 قرار المجلس الوطني لحزب الاستقلال، القاضي بالخروج من دائرة المساندة النقدية للحكومة بقيادة حزب "العدالة والتنمية"، التي ارتضاها لنفسه منذ عام 2015، والتموقع رسميا في المعارضة.

وبهذه الخطوة التي بدت جد متأخرة، يكون حزب الاستقلال قد حقق مجموعة من الأهداف، منها تحقيق التجانس بين مختلف قياداته بعد اجتيازه مرحلة مخاض عسير، عرف خلالها أبناؤه صراعات طاحنة أيام انعقاد مؤتمره الأخير، تقوية خطابه وتحفيز الشارع. فك الارتباط مع حكومة العثماني، وتحديد موقعه الطبيعي في تعزيز أدوار المعارضة البرلمانية إلى جانب حزب "الأصالة والمعاصرة"، والسعي نحو تنسيق الجهود في العمل المشترك لمواجهة سياسات الحكومة. إذ هاجم أمينه العام الجديد نزار بركة حصيلتها ، باعتبارها حصيلة هزيلة ولا ترقى إلى مستوى تطلعات الجماهير الشعبية. مشددا على ضرورة إغناء المشهد السياسي من موقع المعارضة، على أن تكون "معارضة استقلالية وطنية"، تهدف إلى الارتقاء بمهام المؤسسة الدستورية، المشاركة في التحولات الكبرى وبلورة حلول مناسبة للمشاكل المطروحة، الحرص على إسماع أصوات المقهورين، مواجهة التوجهات الليبرالية غير المتوازنة والمتغلغلة في مفاصل وبنيات الاقتصاد الوطني، وفشل الحكومة في رفع التحديات وعدم الوفاء بالالتزامات وتلبية المطالب المشروعة للمواطنين...

فهل يا ترى سيكون بمقدور حزب "سي علال" بقيادته الجديدة قادرا على إسعاف المعارضة وإعادة الثقة للمواطنين في العمل السياسي وشحن دماء جديدة في شرايينها وفق منظور جديد؟ إذ لا يكفي الإعلان عن الاصطفاف في المعارضة وحسب، بل إن الأهم هو الممارسة الحقيقية عبر ترجمة النص الدستوري إلى واقع ملموس. لاسيما أن حزب "الأصالة والمعاصرة"، الغريم اللدود للحزب الحاكم والحاصل على المرتبة الثانية في تشريعيات أكتوبر 2016 ب102 مقعدا، أمام حزب الاستقلال الذي جاء ثالثا ب46 مقعدا فقط، كان قد عبر عن تموقعه في المعارضة فور ظهور نتائج الانتخابات، دون أن يتمكن من القيام بوظائفه بالشكل المطلوب، مما دفع بأمينه العام إلياس العماري إلى تقديم استقالته، احتجاجا على الأداء الباهت لفريقيه البرلمانيين في الغرفتين الأولى والثانية.

والمعارضة فاعل أساسي في الحياة السياسية حسب الدستور، لما يتعين عليها القيام به من دور مركزي في مراقبة العمل الحكومي والمساهمة في مختلف التحولات، وتعتبر مكونا هاما في تطوير تدبير الشأن العام، وليست جزء منفصلا عن الدولة وأجهزتها، تعارض من أجل المعارضة وكيفما اتفق، للإثارة عبر التراشق بالشتائم والحركات البهلوانية والنزاعات السياسوية وتصفية الحسابات الحزبية، والجدل الذي من شأنه هدر الزمن السياسي وتضييع فرص التغيير نحو الأفضل وتحقيق التنمية الشاملة، تمييع العمل السياسي، تنفير المواطنين من الانخراط في الأحزاب والمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، كما هو حاصل اليوم في بلادنا.

فبالعودة إلى الوثيقة الدستورية، نجد أن الفصل العاشر يضمن للمعارضة البرلمانية مكانة متميزة، تخولها حقوقا هامة للنهوض بمهامها في العمل البرلماني والحياة السياسية، على مستوى حرية الرأي والتعبير والاجتماع، والاستفادة من التمويل العمومي واستغلال وسائل الإعلام العمومية، ورئاسة اللجنة

المكلفة بالتشريع في مجلس النواب، وتمثيلية ملائمة للأنشطة الداخلية بالبرلمان، فضلا عما منحها من أدوار تتمثل في مراقبة الحكومة عبر توفير مجموعة من الآليات، المشاركة الفعلية في مسطرة التشريع واقتراح القوانين والدبلوماسية الموازية للدفاع عن القضايا الوطنية وصيانة الوحدة الترابية وتقوية الجبهة الداخلية، والمساهمة في تأطير وتمثيل المواطنين بواسطة أحزابها طبقا لأحكام الفصل السابع من الدستور، وممارسة السلطة عن طريق التناوب الديمقراطي...

بيد أننا للأسف لم نعد نلمس ذلك الحس النقدي لدى "المعارضة"، أو الاعتراض على القرارات المجحفة للحكومة في الإجهاز على المكتسبات: كالاقتطاع مثلا من أجور المضربين و"إصلاح" التقاعد، كما لم تعد تشكل تلك السلطة المضادة التي من واجبها الترافع والدفاع عن المبادئ الأساسية للديمقراطية والحريات العامة، والتصدي للخروقات واقتراح الحلول والبدائل.

فالملاحظ أنه منذ تولي حزب "العدالة والتنمية" قيادة الحكومة، والمعارضة في تراجع مضطرد عن مهامها، حيث بات النص الدستوري متقدما على الممارسة الفعلية، وصارت الأغلبية هي من تقوم بدورها في عدة أحايين. إذ تلاشى بريقها وخفت صوتها، لتحل محلها "التبوريدة" والمسرحيات الرديئة والمستفزة لمشاعر المواطنين. وبدت في أكثر من مناسبة بعيدة عن ممارسة أدوارها الدستورية، وإلا ما كان للشعب المغربي أن يأخذ بزمام المبادرة، ويمارس "سلطته" في المواقع الإلكترونية وعبر صفحات التواصل الاجتماعي والاحتجاجات العفوية، وما الحملة "الفيسبوكية" لمقاطعة بعض المنتوجات التجارية إلا أحد النماذج الواضحة.

إننا بتخلصنا من أبرز رموز الشعبوية الذين كانوا يلوثون الفضاء السياسي بضجيجهم المقرف، وتموقع حزب الاستقلال في المعارضة، نتمنى صادقين أن تستعيد المعارضة عافيتها وتساهم في تحريك المياه الراكدة، بابتكار أساليب جديدة لمعالجة الملفات الكبرى من قبيل: محاربة الفساد والحد من المديونية وإصلاح التعليم والصحة والقضاء وتقليص معدلات البطالة والفقر والأمية والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية. فمن مصلحة مستقبل البلاد والعباد، وجود معارضة قوية ذات مشاريع تنموية حقيقية، وبإمكانها خلق مناخ فكري نظيف وإيجاد مخارج عملية للأزمات الاجتماعية والاقتصادية...



 اسماعيل الحلوتي