رغم كل الإمتيازات ومظاهر العيش الكريم التي يحظى بها المسلمون في الغرب، فإن الكثيرين منهم  يصرون على عزف سمفونية التكفير والشيطنة والعدائية هناك بنفس الإيقاعات والألحان التي نسمعها عندنا. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، فقد أصبح المسلمون في الغرب يشكلون هاجسا أمنيا خطيرا بسبب تنامي سلوك الإرهاب الذي يهدد أمن الدول التي يقيمون فيها. وفي كل البلدان الغربية التي تعرضت لعمليات إرهابية خلال السنوات الأخيرة كان المنفذون من المسلمين الذين تحصلوا على جنسيات الدول التي يعيشون فيها، وذلك بدءا بتفجيرات 11 شتنبر 2001 الشهيرة في الولايات المتحدة، مرورا بتفجيرات قطارات مدريد ( مارس 2004) ومترو لندن ( يوليوز 2005) وعملية " شارلي إيبدو" في باريس ( يناير 2015)، وصولا إلى حوادث الدهس التي عرفتها عدد من المدن في فرنسا وألمانيا وإنجلترا خلال السنتين الأخيرتين.

   المجتمعات الغربية تتسع لجميع الأعراق والأديان والمعتقدات والثقافات  بدون تمييز ولا اختيار، لأنها ببساطة شديدة وفية لمبادى العلمانية التي تتأسس على الحرية والرقي بالقيم الإنسانية الكونية المشتركة. إنها تحتكم إلى قواعد قانونية تنتصر للإنسان وليس للتلوينات والإنتماءات العرقية أو المذهبية. وكل المكونات الإجتماعية التي تعيش في هذا النسيج تتمكن من الإندماج في الثقافة الغربية، غير أن المسلمين ( دون تعميم طبعا)  يشكلون استثناء يستعصي على الفهم. إنهم يطالبون بالحقوق (وهي مضمونة هناك على كل حال)، بل يريدون قوانين على مقاسهم ووفق أهوائهم... وهم ينظرون إلى برامج إدماج المهاجرين في الحياة العامة بأنها تستهدف خصوصيتهم الدينية.

 هؤلاء الذين اضطروا إلى مغادرة بلدانهم الأصلية بحثا عن آفاق حقيقية للعيش الكريم وهربا من الفاقة والبطالة وظروف الحياة الصعبة، أو بحثا عن فرص أخرى للنجاح والتفوق في الدراسة أو العمل... وجدوا ضالتهم في الدول الغربية التي استقبلتهم. وهم يعيشون في المهجر في ظروف اقتصادية وأمنية ليس لها مثيل في بلدانهم الأصلية، ومع ذلك لا يعترفون بفضل أهل الدار، ويتهمون الغرب بمحاربتهم والتضييق عليهم واستهدافهم... وهنا تحضر المفارقة العجيبة: إذا كان الغرب يستهدف المسلمين ويحاصرهم، فلماذا يزداد عدد المهاجرين من بلاد الإسلام إلى الدول الغربية باستمرار؟. لماذا لا يغادر ( هؤلاء الذين يسبون الغرب ويرفضون قيمه) بلدان الكفر التي يقيمون بها؟. لماذ لا يعودون إلى مواطنهم الأصلية؟.

 جاء في الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم بشأن الهجرة :

 ((حدثنا إسحاق بن إبراهيم: سمع محمد بن فضيل، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن مشاجع – رضي الله عنه- قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم- أنا وأخي، فقلت: بايعنا على الهجرة، فقال: " مضت الهجرة لأهلها "، فقلت: علام تبايعنا؟. فقال: " على الإسلام والجهاد ".)). وفي رواية أخرى: (( أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم-  بأخي بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: " ذهب أهل الهجرة بما فيها." فقلت: على أي شيء تبايعه؟. قال: " أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد ".)).     

  يتفق المفسرون أن عبارة "لا هجرة بعد الفتح" ليست عامة، بل هي خاصة. أي أن الحديث لا ينفي استمرار الهجرة من بلاد " الكفر " إلى ديار الإسلام، وإنما يعني انتفاء أسباب الهجرة من مكة إلى المدينة تحديدا بعد الفتح .ذلك أن هجرة الرسول وأتباعه من مكة إلى المدينة ارتبطت بعامل رئيسي يتعلق بحال المسلمين في مكة. فقد كان أغلب أتباع الدين الجديد من الفقراء والمستضعفين الذين تعرضوا لكل أشكال التنكيل من طرف أسياد مكة وأشرافها الذين رفضوا هذا الدين لأنه كان يهدد مكانتهم الإجتماعية في الصميم. لذلك كانت الهجرة بمثابة طوق نجاة من بطش الكفار في مكة، وكانت المدينة أكثر أمانا لحفظ الدين والنفوس. وهذا يعني أن دواعي الهجرة لم تعد قائمة بعدما تم فتح مكة وأصبحت دارا من ديار الإسلام، ولم يعد فيها ما يدعو إلى الخوف على الدين الإسلامي...

المستفاد من الحديث المذكور هو أن المسلم مطالب بالهجرة في بعض الظروف التي يجد فيها أن عقيدته مهددة لسبب من الأسباب. أي أن انتفاء أسباب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح لا يعني أن واجب الهجرة  قد انتفى تماما. ومن تم فإن الهجرة تظل واجبا على كل مسلم لا يستطيع ممارسة شعائره الدينية بحرية ودون تضييق في أي مكان في العالم. فمتى وجد المسلم نفسه في مكان يحارب فيه دينه، وجب عليه تطبيق الأمر الشرعي بمغادرة هذا المكان حتى يفر بدينه من الفتنة. وهذا رأي لا يختلف بشأنه الفقهاء.
 واليوم يبدو أن حال المسلمين الذين يرون في قوانين الغرب تهديدا لإيمانهم واستهدافا لخصوصياتهم، حال هؤلاء إذن يستدعي التفكير من جديد في دلالة الهجرة ( الدينية) وضرورتها، وذلك استنادا إلى الشكاوى الكثيرة التي يرفعها المسلمون أنفسهم، ويتهمون من خلالها الدول الغربية بمعاداة الإسلام والتضييق على الإسلام والمسلمين من خلال تشريع هذه الدول  لقوانين تستهدفهم وتحاصر عقيدتهم... هؤلاء الذين يعتبرون أن سن تشريعات تنظم بناء المساجد أو تمنع المآذن أو تحظر النقاب أو استخدام الرموز الدينية في الأماكن العامة... تمثل تضييقا على المسلمين، لابد وأنهم تبعا لذلك يعيشون في مناخ غير مريح ولا يسمح  لهم بإقامة شعائرهم كما يجب في بلاد المهجر. لذلك فهم مطالبون بتطبيق الأمر الشرعي بالهجرة إلى بلاد يجدون فيها الأمن والأمان حتى يؤدوا شعائرهم الإسلامية بكل راحة وطمأنينة.

على هؤلاء الذين يتهمون الغرب بمحاربة الإسلام أن يغادروا " بلاد الكفار" التي يحارب فيها الدين الإسلامي من خلال قوانينها وعلمانيتها. عليهم أن يسرحوا في أرض الله الواسعة من أجل ممارسة العبادة في ظروف أفضل. فكل ما يحيط بهم في بلاد الغرب يمثل تهديدا لهويتهم الدينية. 
 طبعا هؤلاء الذين لا يملون من اتهام الغرب بالتآمر عليهم وعلى عقيدتهم، رغم أنهم يعيشون هناك أوضاعا لا يحلمون بمثلها في بلاد المسلمين، لا يستطيعون تلبية مطلب الهجرة بإشراطاتها الدينية في هذه الحالة. لأنهم ببساطة لا يستطيعون أن يتخلوا عن رفاهية العيش والإمتيازات الحقوقية التي يتمتعون بها في "بلاد الكفر". هؤلاء الذين يلعنون العلمانية وهم ينعمون في ظلها بكل الحقوق، يعبرون عن ازدواجية خطيرة في السلوك والتصرف، لأن الذي يرى في الغرب عدوا للإسلام لا يحق له أن يعيش هناك مع أعدائه، وهو مطالب بحزم حقائبه والعودة من حيث أتى حفاظا على دينه الذي - يزعم - أنه يتعرض للتضييق في الغرب.

 


محمد مغوتي