سجل التاريخ أن القمة العربية التي بدأت وانتهت الأحد الماضي 15‪/‬ 04‪/‬ 2018‪ بمدينة الظهران شرق المملكة العربية السعودية؛ كانت «قمة عبرية» بامتياز. فقد صبت قراراتها في صالح المجهود السياسي والاقتصادي والعسكري الصهيو أمريكي. ومعها مواقف اُتخذت ذرا للرماد في العيون، وبمثابة حبر على ورق. ومثلت تل أبيب الحاضر غير الغائب. وحصلت هي وواشنطن على النصيب الأكبر من الحصاد السالب للحق والعدل والسلام بالنسبة للعرب، ولم يكن ينقصها غير مشاركة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بشخصه، وبصطحبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. 
كان الانعقاد رقم 29 في سلسلة اجتماعات دورية لأكثر من سبعين عاما، لم يصل فيها التردى إلى ما وصل إليه حاليا، وكان الهم الأكبر على مائدة الاجتماع هو الدولة الصهيونية، وتمكنت من الانتصار بلا حرب وبلا إراقة نقطة دم واحدة. وهزم العرب أنفسهم مجانا بلا معركة، وهروبهم الكبير واتقانهم صناعة «عداوات بديلة» من إيران وغيرها، وهذا لا يعني تزكية أو تأييد أحد، خاصة إيران في احتلالها جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى الإماراتية، ولا يعني اصطفافا طائفيا أو مذهبيا أو عرقيا من هذه الجماعة أو تلك.
و«العداوات البديلة» بالأساس صناعة غربية ينساق إليها حكام عرب بلا ترو، وتتغذى على مبررات سامة؛ تُزكي الصهيونية، وتتنازل عن الحقوق العربية، وبالأخص الحقوق الفلسطينية، وتحرض على الاحتراب البيني بين الأشقاء والجيران، ويجمع غير العرب منهم أخوة الدين ووشائج الشرق. ومع ذلك تتغلب خلافات المذاهب والثقافات على مخاطر الاستيطان وعداوات العنصرية. وشتان بين الدفاع عن حق الوجود والبقاء، وإضاعة الجهد والوقت في خلافات المذاهب وتباين الثقافات. وعدم معالجة هذا الخلل أخرج القمة من آفاق العروبة وحشرها في «جيتو العبرية»، وهي نقلة مُحْدِقة إذا توالى السقوط واحتد الصراع.
في السابق وجدت الحساسية المذهبية المصطنعة من يتصدى لها؛ أئمة عظماء من السنة والشيعة والمذاهب الأخرى.. وكان للأزهر دور رائد في جمع الشمل وتأكيد الأخوة قبل وَهْبَنَتُه (من الوهابية)، وتخليه عن دوره في نشر التسامح والتقريب بين المذاهب، الذي ميزه في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، خاصة في عصر الشيخ محمود شلتوت وأمثاله من خيرة مشايخ وعلماء الأزهر، وسعيهم المشكور للتقريب، وهذا المسعى يحاصر حاليا من «الدواعش» والسلفيين والوهابيين، ولم يبق من رعاة التقريب غير نفر قليل مثل الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق؛ شفاه الله وأطال عمره. 
بدأ الاختراق الوهابي للأزهر في سبعينيات القرن العشرين؛ بإنشاء «مركز الشيخ صالح كامل للاقتصاد الإسلامي»، واستحوذ به على قاعة الشيخ محمد عبده التاريخية؛ درة الأزهر وصرحه العريق بجوار الجامع العتيق في القاهرة، ثم انتقل هذا المركز إلى المباني الجديدة لجامعة الأزهر بمدينة نصر، وذاعت شهرة الشيخ كامل بزواجه من الفنانة صفاء أبو السعود. 
وبتعيين الشيخ أحمد الطيب شيخا للأزهر عادت الحساسيات. ومن الغريب أن الشيخ الطيب سبق ولي العهد السعودي في وصف مرحلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي في مصر بالشيوعية، وهي فترة شهدت تطوير الأزهر وانفتاحه، وإنشاء كليات علمية وعملية ومهنية بجانب الكليات السابقة لأصول الدين والفقه والشريعة واللغة العربية. ونفهم أن يصدر ذلك من أمير سعودي، يقدم أوراق اعتماد مطلوبة لواشنطن وتل أبيب تزكيه لارتقاء العرش السعودي. أما صدورها عن شيخ للأزهر يكشف مستوى ما وصل إليه التغلغل الوهابي. 
أدخلت «القمة العبرية» العرب إلى ما يمكن تسميته بـ«الحالة الأندلسية»؛ في احتضارها الأخير ونهاية الدولة العربية في شبه جزيرة أيبيريا. ووقتها استعان «الإخوة الأعدقاء» فيها بالمتربصين، ومن يتحينون الفرص للإجهاز عليها، ويتكرر المشهد بتماهي «الوهابية» مع العبرية، حتى أضحت هوية لجامعة كانت عربية حتى وقت قريب؛ لينتشر التطرف والولوغ في دماء الأبرياء بدعوى أن قتال «الروافض» يقتضي التحالف مع الصهيونية. وهو صراع في غير محله، ويرمي «القارة العربية» خارج الزمن، ويلقي بها إلى المجهول.
والعنصر المؤثر في الانتقال من العروبة إلى العبرية هو الإذعان والرضوخ لابتزاز رئيس على شاكلة ترامب، وهي الأموال الطائلة التي تمنحها السعودية له، وتلبية الأمير محمد بن سلمان لمطالبه مقابل استمرار بقاء القوات الأمريكية في سوريا، وكله يصب في صالح الحركة الصهيونية، وفي تمكين المستوطنين من انتزاع الأراضي الفلسطينية والعربية التاريخية؛ في القدس والضفة الغربية وغزة والجولان، ويلقى المستوطنون اليهود ترحيبا وحفاوة بالغة من أغلب الملوك والرؤساء والأمراء والمسؤولين السعوديين والخليجيين والمصريين. 
انتهزت واشنطن فرصة انعقاد «القمة العبرية» لهدم المعبد على رءوس من فيه.
وتعمدت إحراجهم، فوجهت مع لندن وباريس ضربات صاروخية وجوية من مدمرات وغواصات البحر المتوسط، ومن قواعد الخليج وقبرص؛ جاءت ردا على هجوم كيميائي ما زال قيد التحقيق على «دوما» في إحدى ضواحي دمشق، ووقع الهجوم قبيل ساعات من بدء مؤتمر «القمة العبرية؛ كأنه تنبيه لها، مع أنها تنفذ ما طُلِب منها دون حاجة لتنبيه أحد. والرسالة واضحة: نحن لكم بالمرصاد‪.‬ 
لا تكتفي الحركة الصهيونية بتفوق دولتها على دول «القارة العربية» مجتمعة، ولا تُسَلِّم بتغيير العقيدة القتالية والعسكرية العربية، وانتقال الصراع من صراع وجود إلى نزاعات حدود. وأولت القمة «الخطر الإيراني» اهتمامها الأكبر، مع الإقرار بحسن النوايا الصهيونية واستقامتها، وبمقارنة حسن النوايا الصهيونية بـ«الخطر الإيراني» فالمقارنة تأتي لصالح تل أبيب. وتتعزز بادعاءات مثل احتلال إيران لأربع عواصم عربية؛ بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء، وكأنها بلاد مبرأة من الصراعات الداخلية الدامية أو لا تعيش حروبا أهلية مسلحة تداخلت فيها أطراف إقليمية ودولية عدة، وهناك زعم سعودي خليجي بأن الدولة الصهيونية لا تتجاوز الحدود، واستندت أجهزة الإعلام هناك إلى ذلك المنطق في التحذير من الخطر الإيراني الذي يفوق الخطر الصهيو أمريكي من وجهة نظرهم، ونسوا دعوتهم لجيوش الغزاة للحشد في حفر الباطن، وقيادة حملات الإغداق على «الميليشيات العالمية»؛ «الداعشية» وغير «الداعشية»، ودفعها إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وليبيا ومصر. ويستكثر مؤتمر «القمة العبري» مساواة طهران بتل أبيب في المعاملة، ولو من الناحية الشكلية، وذلك دليل سقوط آخر ما تبقى من عمل عربي مشترك. 
وقد يأتي يوم يوقن فيه أصحاب القرار العربي أن ثمن العزة مهما ارتفع أرخص من تكلفة العجز والذل والاقتتال البيني والحروب الأهلية، ووصل الأمر حد الرضوخ لابتزاز رخيص من شخص مثل ترامب يرأس أقوى دولة في العالم. ووصفته شهادة وردت في مقتطفات نشرتها صحف أمريكية من كتاب جيمس كومي؛ المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي؛ أن دونالد ترامب «غير مؤهل أخلاقيا» ليكون رئيسا للولايات المتحدة. ومعنى عدم التأهيل الأخلاقي هو فقدان الأهلية السياسية والجدارة الشخصية، ومعناه التعجيل بالحجر عليه وعزله. وشخص هذه صفاته حصل في زيارته للرياض على 480 مليار دولار، ولما لم يتقاضى ثمن ضرب سوريا مقدما أطلق عرضا هزليا مع تريزا ماي وماكرون، وأصدروا أوامرهم بإطلاق صواريخ وقذائف تهويش، وقد يثبت الزمن أن ترامب «حيطة مايلة» لن تنفع ولي العهد السعودي أو غيره للاستناد عليها، وقد ينهار ذلك الحائط المتصدع، ويحول بينه وبين ارتقاء العرش السعودي.

محمد عبد الحكم دياب