من نافل القول أن المسألة السورية اليوم من أعقد القضايا السياسية، وأصعب الصراعات في العالم على الحل أو التحليل السياسي معا نظرا لتشابك أحداثها وكثرة المتدخلين فيها وغرابة التحالفات على أرضها، فقد ادلمّست فيها الرؤية واختلط الحابل بالنابل، لهذا سأحاول أن أعبر عن رأيي في هذا المقام محترسا من الأشواك، ملتمسا الصواب ما أمكن.

وأشرع في بيان ذلك من خلال التنبيه على مسلمتين اثنتين هما:

-أولا: كون الأنظمة العربية جلها فاسد مستبد، لا يتورع عن استخدام أخس الوسائل وأشنع الطرق من أجل المحافظة على الحكم، وكلنا يتذكر النظام البعثي في العراق الذي أحرق قرى ومدنا بأكملها ودمرها بالغازات، ولقب الكيماوي أصلا أطلق على أحد عتاته المتجبرين علي حسن المجيد "علي الكيماوي"، ورغم مواقف النظام البعثي المناهضة لأمريكا والغرب الإمبريالي في أخرياته والتي غسل بها بعضا من عاره بالماء فإن أحدا لن ينسى تلك الجرائم، والشأن نفسه يمكن أن يقال عن النظام الأسدي في سوريا الذي تفنن في قتل شعبه بمختلف الطرق من البراميل المتفجرة إلى استخدام الأسلحة الكيماوية.

ثانيا: أمريكا هي التي تقود وترعى النظام الإمبريالي المتوحش في العالم، الذي ينتهب خيرات الشعوب ويمتص دماءها، فهي التي تصدر لهم الأسلحة لكي يتفانوا، وهي التي لا تتورع أبدا عن التدخل العسكري المباشر متى تضررت مصالحها كما حدث في العراق وأفغانستان وغيرهما، حيث نشرت الدمار وعممت "الفوضى الخلاقة"، لهذا لا يمكن اعتبار تدخلها في سوريا إلا من هذا الباب، فهي لا تحتاج إلى ذرائع للقيام بذلك، بل وتختلقها متى دعت مصلحتها إلى ذلك، وليس هدفها أبدا الدفاع على مصلحة الشعب السوري أو الوقوف

إلى جانب حقوق الإنسان وقيم الحرية المزعومة، وأية حسابات أخرى إنما هي كمن يستجير من الرمضاء بالنار.

بعد هذا يمكننا أن ننظر إلى المسألة السورية من خلال ثلاث مستويات متدرجة ومتداخلة هي الوضع الداخلي ثم الوضع الإقليمي وأخيرا الوضع العالمي.

نبدأ بالمستوى الأول وهو الوضع الداخلي باعتبار أسبقيته، فقد انفجرت الانتفاضة السورية مع أحداث ما سمي ب"الربيع العربي"، فقابلها النظام البعثي بقمع شرس أراد من خلاله وأدها في المهد، وقد أدى ذلك إلى تسليح الانتفاضة السورية. وإذا كان خطأ النظام متوقعا لسالف إجرامه ودمويته فإن انجرار الانتفاضة السورية نحو العسكرة كان خطأ بالغا ولا شك، وهو خطأ ننظر إليه الآن باعتباره كذلك بفعل المآلات الصعبة لقرار التسليح، والمتمثلة في أن الفصائل المسلحة أصبح أكثرها أداة في أيدي الدول الأجنبية ووسيلة لخدمة مصالحها ومن ثمّ تشرذمها وانقسامها على نفسها، ثم ظهور المجموعات الإرهابية التي ماثلت الفظائع التي ارتكبها النظام الكيماوي، وكذلك التدمير الشامل للدولة السورية ومقدراتها وهي نتائج كانت متوقعة لترتب هذه المآلات على عموم الانتفاضات المسلحة.

هل كان بإمكان الشعب السوري المنتفض والمعارضة السورية الجادة والمسؤولة تجنب هذه المصائر؟ أشك في الأمر باعتبار صعوبة اتخاذ القرارات تحت ضغط المنتفضين على الأرض، ورغبة الدول الراعية لبعض قوى هذه المعارضة في جرّ الصراع إلى الحرب. وإذا كنت لا أستطيع أن ألوم المعارضة على هذا القرار الصعب فإنها من ناحية أخرى مسؤولة على عدم قدرتها على تقديم البديل عن النظام الدموي، وكذلك تحالفاتها المشبوهة على المستوى الداخلي من خلال توفيرها الغطاء لبعض الجماعات الإرهابية، أو على المستوى الدولي من خلال عدم قدرتها على فك الارتباط مع "الأجندات الخارجية".

أما النظام السوري والمتحالفون معه فقد فقدَ شرعيته الداخلية، وفقدَ أحد مبررات وجوده واستبداده والمتمثلة في أكذوبة المقاومة التي كان يستدرّ بها تعاطف الناس وحركات المقاومة، وأية مقارنة بين تعامله البارد مع الصلف الإسرائيلي، وسحقه في المقابل لشعبه المطالب بالحرية تبدو واضحة في الباب.

في المستوى الثاني تبدو سوريا ساحة صراع إقليمي بامتياز:

فثمة أولا الصراع الإيراني السعودي على الهيمنة الإقليمية التي تمّ تغليفها بصراع طائفي فجّ، حاولت كل دولة منهما استثارة العواطف الدينية الطائفية، وتوظيف التاريخ وصراعاته والجغرافيا وامتداداتها قصد حشد التأييد لهذا الطرف أو ذاك، وقد عمدت الدولتان إلى طريقتين خطيرتين في صراعهما الإقليمي وهما استخدام الجماعات العقدية واستدعاء التدخل الأجنبي، وأزعم أن إيران تفوقت في الطريقة الأولى نظرا للارتباطات العقدية

للكثير من الطوائف المذهبية الشيعية بالمرجعية الدينية الشيء الذي لم تقو السعودية على مجاراته نظرا لتفكك بنيتها الفكرية والمذهبية إضافة إلى زيف ادعاءاتها الدينية التي تبين أنها مجرد أدوات تستخدمها تحت الطلب سواء في الداخل أو الخارج كما تبين ذلك من خلال تصريحات ولي العهد الأخيرة حول نشر الوهابية في العالم بطلب غربي إبان الحرب الباردة، وفي المقابل فإن السعودية نجحت في التأثير على قرارات الدول الغربية بخصوص المنطقة بفعل الأموال الطائلة التي تغدقها على هذه الدول أو بعبارة أصح فقد استطاعت هذه الدول أن تبتز السعودية وبشكل صلف وفجّ.

وثمة في مقام ثان الصراع التركي الكردي، فإذا كانت تركيا الأردوغانية من الدول التي أيدت الانتفاضة السورية منذ اليوم الأول بدعوى الوقوف إلى جانب الحق والعدل، فإن صراعها مع الأكراد دفعها إلى تغيير الكثير من تحالفاتها والقبول بالأوضاع القائمة في كثير من الأحيان، بل وربما عقد العديد من الصفقات مثل عفرين مقابل اجتياح النظام السوري وحلفائه للغوطة الشرقية.

في المستوى الثالث تبدو سوريا ساحة عراك عالمي مكشوف بين الغرب من جهة وروسيا المتطلعة للمجد السوفيتي من جهة أخرى، فقد أعقب سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة إعلان التفوق الغربي ونموذجه في السياسة والحكم ومن ثمّ "نهاية التاريخ" حسب بعض الأدبيات السطحية، وتربع أمريكا على عرش العالم، لكن بعد ذلك بمدة بدأت المعالم تتغير، وموازين القوى تتبدل، مع صعود قوى جديدة خصوصا الصين، ومحاولة قوى تقليدية استرداد عافيتها، الشيء الذي أدى إلى ظهور صراعات على النفوذ والهيمنة في المجالات السياسية والاقتصادية في العالم.

لكن رغم ذلك فإن هذا الصراع تحكمه قواعد احتكاك متفق عليها ومتحكم فيها سلفا، ومعادلات في الاشتباك لا يمكن تجاوزها غالبا، وفي ظلها يمكن فهم الضربة الغربية الأخيرة بدعوى وجود أسلحة كيميائية، من هذه القواعد:

الضغط المتبادل لانتزاع مكتسبات في مناطق مختلفة من العالم وفي مجالات متعددة من الصراع، فالصراع في سوريا ورقة من الأوراق لا كلها، ويمكن التضحية بها متى تبين أن الخسارة فيها أكبر من الربح، وليس ثمة أي موقف مبدئي أخلاقي يحكمها عند جميع الأطراف.

إقامة التوازنات الاستراتيجية، ففي الصراع السوري حيث بدا الاتجاه نحو نوع من الهيمنة المطلقة لروسيا على الملف خصوصا بعد التفاهمات المبرمة مع تركيا، والتقدم على الأرض لصالح روسيا والنظام، يحتاج الغربيون دائما إلى العودة إلى التوازنات التي تحفظ لهم أدوار معينة في صياغة الوضع النهائي.

حفظ التفوق الإسرائيلي في المنطقة والقضاء على أية تهديدات محتملة لوجوده، باعتباره الامتداد الطبيعي للهيمنة الغربية على المنطقة ومنع أية محاولات جادة نحو الاستقلال والسيادة والتفوق.

بناء على هذا كله قد لا يكون من المروءة والأخلاق في شيء، ولا من المصلحة السياسية للمنطقة على المدى البعيد تأييد التدخل الغربي في منطقتنا لأنه لن يقود إلا إلى مزيد من الفوضى والتشرذم، كما أنه لن يكون من المروءة والأخلاق أيضا ولا من الحكمة والعدل الاصطفاف إلى جانب نظام مجرم لا يراعي في شعبه إلاّ ولا ذمة، فيكون الأصوب هو البحث عن بدائل لاقتلاع الاستبداد وجذوره من سوريا ومن العالم العربي ككل من خلال الوحدة الداخلية أساسا، والمقاومة المدنية أسلوبا، والتربية الفكرية العميقة دائما وأبدا.



حفيظ هروس