الانتخابات العراقية البرلمانية في مايو المقبل، ستحدّد مصير العراق وشكل المنطقة، وتعدّ نقطة تحول إستراتيجية في مستقبل العراق السياسي والعسكري، والشرق الاوسط عموماً. هناك تحوّلات جيوسياسية كبرى يجري تنفيذها على الارض، في كل من سوريا والعراق، لتحدّيد مستقبل المنطقة، في مرحلة ما بعد القضاء على تنظيم داعش والميليشيات، والفصائل المتطّرفة الاخرى، كالنصرة والجيش الاسلامي، وحزب العمال الكردستاني والوحدات السورية وغيرها. وبما أن القضاء على تنظيم داعش في العراق، أصبح حقيقة واضحة، مع بقاء خلاياه النائمة والمختفية في الانفاق والمغاور وعمق الصحراء، وتقاتل بطريقة العصابات والذئاب الجريحة المنفردة، التي تنصّب السيطرات المرورية على الطرق الدولية، فإنها الآن تحتضر تماماً في سوريا، وهكذا الأمر مع النصرة والجيش الاسلامي والوحدات الخاصة الكردية السورية، التي هزمت في الغوطة وعفرين ودوما وسنجار وغيرها، بالرغم من الضحايا الكبيرة التي قدمتها هذه المدن، كما قدمت الموصل والانبار، للتخلص من الإرهاب.

نحن ألآن أمام متغيرات إستراتيجية، ومصيرية، تتمثل في إعادة صياغة سايكس–بيكو جديد على المقاس الاميركي–الفرنسي–البريطاني–الالماني. والجميع يعلم أن حرباً عالمية (مصغرة) تدور رحاها الآن في الاراضي السورية، بين التحالف الاميركي–الفرنسي-البريطاني، وبين التحالف الروسي–الايراني– التركي–السوري، في أكثر من قاطع. إذن المنطقة في حرب عالمية شئنا أم أبينا، ولكن هذه الحرب التي نراها تأخذ أبعاداً إقليمية ودولية، لكي تصبح وتدخل المنطقة كلها في هذه الحرب، وتبقى شعوب المنطقة وقوداً لهذه الحروب.

تأخذ الإستراتيجية الأميركية اليوم شكلاً جديداً، وخطيرا ًفي التصعيد العسكري في سوريا، ويوازيه أيضا تصعّيد وتدخل مباشر في الإنتخابات العراقية. ففي التصعيد العسكري، فجرّت عملية القصف الكيمياوي لمواطني دوما، وإتهام النظام السوري بتنفيذ هذا الهجوم، الأوضاع وتصاعدت التهديدات الاميركية والغربية، في إطار تنفيذ ضربات جوية على مراكز القيادة والقواعد والمطارات العسكرية السورية. وتم تنفيذ ضربة إستباقية لمطار التيفور العسكري، قيل إنها ضربة إسرائيلية، في حين نفت ادارتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون توجيه هذه الضربة، ولكنهما لم يستبعداها لاحقا، بعد مناقشة الامر في مجلس الامن الدولي، وسط دفاع روسي مستميت عن النظام السوري. فيما حمّل الرئيس ترامب إيران وروسيا، مسئولية ما يجري في سوريا وتغول النظام السوري، حسبما ترى الدول الغربية واميركا.

في ضوء هذه التطورات الخطيرة تنظر الادارة الاميركية الى الانتخابات العراقية، على إنها الورقة الاكثر اهمية في الوقت الحاضر لتنفيذ أجندتها ومشروعها في المنطقة، لتحجيم الدور الايراني في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان، بعد أن أعلنت الميليشيات التابعة لايران القتال ضد التواجد الاميركي في العراق وسوريا. وطالبت فصائل عراقية عسكرية مسلحة من القوات الاميركية مغادرة العراق فورا لانتفاء الحاجة منها، مما جعل الادارة الاميركية تستشعر بخطر هذه الميليشيات في استلام السلطة في العراق، بالترغيب والترهيب، لاسيما وإن قادة الميليشيات وعناصرها قد أعلنت ترشحها وخوض الانتخابات، بل ذهب البعض كجس نبض الشارع العراقي، بترشيح أحد قادة الميليشيات لرئاسة الوزراء. فهناك معركة حقيقية بين إيران والادارة الاميركية لتحدّيد مصير العراق في الانتخابات المقبلة. فإما أن تكون حكومة تابعة لايران كلياً، وهذا ما تعمل عليه طهران بكل قوتها ونفوذها اللّامحدود، وقد حشدت كل إمكاناتها الدينية والاعلامية والسياسية، وفتحت مقرات في كل محافظات العراق للإشراف على الانتخابات تحت يافطات وهمية ومنظمات خيرية وإنسانية، وبين أن تخرج حكومة عراقية برؤية أميركية تضمّ كافة قوميات وطوائف الشعب العراقي.

لذلك خرجت تصريحات أميركية تحذّر السياسيين العراقيين والأحزاب الدينية من الوقوع في الفخ الايراني. وأرسل الرئيس ترامب مبعوثه الخاص الى بغداد ليبلّغ جميع الاطراف، وبدون لف ولا دوران، أنّ الفخ الايراني في الانتخابات هو لإدخال العراق في دوّامة الحروب الاهلية الطائفية، وإبقاء العراق تابعا ذليلا للولي الفقيه. فزيارة المبعوث الرئاسي بريت ماكغورك المرتقبة لبغداد، تأتي لوضع النقاط على الحروف. وكانت مكالمة الرئيس ترامب لرئيس لوزراء العراقي حيدر العبادي سبقت الزيارة، دليل الاهتمام الاميركي الاستثنائي في الإنتخابات، والتي تعتبّرها الإدارة الاميركية إنتخابات مصيرية لها. هذا وسبق للسفراء البريطانيين والفرنسيين أن التقوا بالسيد عمار الحكيم وهادي االعامري ونوري المالكي.

يشي الحراك الاعلامي السياسي لإدارة ترامب والدول الغربية بوجود إصرار واضح على تغيير بوصلة الانتخابات بكل الوسائل، وسحب البساط من تحت أقدام حكام طهران، تمهيداً لتحجيم إيران واخراجها من العراق. فلا تخفي الادارة الاميركية خشيتها من تسلط ايران على العراق في مرحلة ما بعد الانتخابات، واعتبار ان كل الفشل الذي يواجه حكومة العبادي إنما تقف إيران من وراءه، وان كل ما يجري من زعزعة الامن والاستقرار في العراق والمنطقة، هو بسبب التدخل الايراني المباشر من خلال أذرعها وميليشياتها وحرسها الثوري وفيلق القدس.

إنما نرى الاصرار الاميركي هو بسبب فشل السلطة التي يشرف عليها التحالف الوطني (الشيعي) وجلّه تابع لولي الفقيه هو وأحزابه وميليشياته. وهذا ما أفصح عنه السفير الاميركي في بغداد دوغلاس سيليمان حين قال "ان فشل الشيعة في الحكم، يتطلب من السنّة العمل على الفوز بالانتخابات القادمة"، والذي همشتهم الاحزاب الحاكمة بتوجيه ودعم إيراني منقطع النظير، لان كل ما جرى من خراب ودمار وفساد ونزوح وتهجير وظهور ظاهرة داعش هو نتاج تدخل ايران وسيطرتها على السلطة بتخطيط إنتقامي واضح لاحقاد تاريخية ودينية.

الانتخابات ستجري أو لا تجري إذا تصاعدت التصريحات والصراعات الاميركية–الايرانية بسبب إصرار الطرفين على السيطرة على حكومة عراقية بعد الانتخابات وقطف ثمار النصر في العراق. ونرى بكل تأكيد أن الادارة الاميركية استشعرت مبكرا ألاعيب طهران الانتخابية، من تزوير وشراء ذمم وشراء بطاقات الناخب، وترهيب المواطنين في المحافظات المحررة من قبل ميليشياتها، كما حصل في الانبار وصلاح الدين ونينوى، أو من خلال فتح مقرات لها فيها تحت مسميات مختلفة. لهذا إستبق الرئيس ترامب الامر بمكالمة هاتفية لحيدر العبادي، لتبليغه قلق واشنطن البالغ من التدخل الايراني في الانتخابات وسيطرتها على مراكز التصويت.

ننتظر مبعوث الرئيس ترامب بريت ماكغورك ليضع اللمسات الاخيرة على القرار الاميركي بشأن الانتخابات التي تراها إيران والاحزاب فرصتها التاريخية للبقاء في السلطة، والسيطرة على مقدرات وموارد العراق، وتقصد إبقاء العراق في مقدمة الدول الفاشلة والفاسدة دوليا. بكل تأكيد الرئيس ترامب شخصيا يرى في نجاح تشكيل حكومة عراقية برؤية أميركية أمر في أولويات الإستراتيجية الاميركية في الوقت الحاضر، لان تحديد مصير العراق هو تحديد مصير المنطقة والشرق الاوسط بأكمله. فلا استقرار ولا أمن في المنطقة، من دون إستقرار العراق. فمن خطأ غزو العراق وإسقاط نظامه وإزالة دولته، خرجت أسباب دخول الشرق الاوسط، في ظهور التطرف والارهاب وتغول ايران، واستئسادها على الدول العربية، ومن الغزو خرجت ظاهرة تنظيم داعش والنصرة وغيرها، ودخول البعد الطائفي والاثني والعرقي والقومي على خط الخراب والحروب الاهلية. وهذا ما نراه مجسدا في العراق وسوريا واليمن.

الرئيس ترامب مصمم على تشكيل حكومة عراقية بعيدا عن النفوذ الايراني، بأي شكل من الاشكال وبإصرار واضح، ومكالمته للعبادي، وإرسال مبعوثه أول الغيث وينهمر المطر.

 

عبدالجبار الجبوري