بسبب سوء الأوضاع الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون داخل فطاع غزة فإن اقبال الشباب هناك على الموت انتحارا برصاص القناصة الإسرائيليين صار نوعا من الخلاص المبرمج، كما لو أنه الخيار الذي يضمن حلا وطنيا من نوع ما. وإلا ما معنى أن يصر شباب في عمر يؤهلهم لصنع حياة أفضل على الاقتراب من حدود، يعرفون أنها صارت بمثابة منطقة للقتل؟

لقد آن الأوان لكي نفهم أن تلك الوصفة صارت قديمة ومستهلكة بل ويتخللها الكثير من الكذب والنفاق ولم يعد لها ذلك التأثير القديم الذي لا يزال البعض ممن اختزل اللغة بالشعارات يعول عليه.

بالنسبة للعدو الإسرائيلي فإن الإنسان الفلسطيني رخيص أكثر مما نتوقع. وفي ذلك تدعمه الدول والقوى الكبرى. وهو ما يجعل الاقدام على موت نسميه "شهادة" هو نوع من الحماقة والغدر بالنفس وتضييع فرصة حياة من المؤكد أنها ستكون نافعة. وهو ما يقود إلى فكرة أقسى. لقد صار الإنسان الفلسطيني رخيصا بالنسبة لأبناء جلدته.

ليس هناك ثمن لتكلفته. سيكون موته بالنسبة للمجتمع الدولي حدثا عارضا كما هي حياته بالنسبة لنافخي نداء الموت في جسده من المجاهدين الذين علقوا على مشجب الاحتلال أسباب انهيار المشروع الوطني.

أعرف أن النصح لا ينفع في ظل التظاهرات والصراخ العبثي.

ما هو مؤكد أن الواقع الفلسطيني بغض النظر عن الانقسام الذي شهده منذ عشر سنوات بين سلطة في رام الله وحماس في غزة كان مخترقا بشتى صنوف التجهيل والافقار المعرفي وضياع البوصلة الوطنية وعمليات غسيل الأدمغة بما عرض التاريخ النضالي الذي صنعته التنظيمات الفلسطينية المسلحة التي وضعت فلسطين على الخريطة الدولية للنسيان أو الإهمال في أحسن أحواله.

هناك اليوم أجيال لا تعرف شيئا عن ذلك التاريخ المشرف الذي يعتز به المقاتلون من أجل الحرية حول العالم.

لم يكن الفلسطيني يومها يُقتل عبثا. كان ثمن تكلفته عاليا.

لذلك لم يكن الفلسطينيون يُقتلون بالجملة. كان هناك معنى للشهادة. كانت أسماء الشهداء تصنع تاريخا، لا بالنسبة للعرب وحدهم بل وأيضا بالنسبة للإسرائيليين. فحين يُذكر اسم دلال المغربي على سبيل المثال فإن القضية الفلسطينية تفرض نفسها على ميزان القوى. هناك شعب يقاوم من أجل قضية واضحة الملامح.

لقد سرقت المغربي ساعات من الوقت الدولي خصصتها من أجل قضية شعبها العادلة.

أما أن يسقط المئات من مجهولي الهوية قتلى وجرحى برصاص القناصين لا لشيء إلا لأنهم اقتربوا من حدود دولة يعترف بها العالم كله فإن تلك جريمة يتحمل مسؤوليتها الطرف الذي حرض على تلك التظاهرات المجانية.

أعتقد أن حركة حماس تحتاج إلى شهداء أكثر من أجل أن تقوي موقفها في المفاوضات مع السلطة. ولكن السلطة نفسها لا تملك ما يمكن أن تقدمه لكي يكون مرضيا عليها من قبل حماس.

في المقابل فإن حماس لا تملك سوى أن تقدم شهداء من أجل القضية. وهي قضية صارت ملتبسة منذ سنوات طويلة. فقد لا تكون إسرائيل سوى الجهة المنفذة لقتل، هو بمثابة رسالة موجهة إلى السلطة الفلسطينية. إسرائيل هنا تلعب دور الوسيط الخبيث والشرير بين طرفين فلسطينيين.

شيء من الوضاعة يمكن أن يستدر الدموع. ولكنها دموع ستضيع في مجرى مياه تعرف إسرائيل قبل غيرها كيف تصرفها. وهو ما يشير إلى أن القضية الفلسطينية قد انتهت إلى أن تكون مجرد صفقة، يوظف مقاولون ثانويون إمكانياتهم من أجل الفوز بها.

تود حركة حماس لو أن إسرائيل ترضى بها طرفا مفاوضا وهو ما يشكل مصدر ازعاج لسلطة رام الله التي اعتقدت أنها تتمدد على سرير إسرائيلي دائم.

أما الشهداء المرتجلون فإنهم يسكنون دموع أمهاتهم حالمين بوطن اسمه فلسطين.

 

 

فاروق يوسف