يكشف شريط قصير انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي الكثير. يكشف اوّلا طبيعة النظام السوري ونظرته الى مواطنيه. الشريط المعني هو لأزلام النظام السوري ينهبون ما بقي من بلدة حرستا المدمّرة القريبة من دمشق ويوضح ما هو مفهوم بشّار الأسد للانتصار. المهمّ الانتصار على الشعب السوري وتهجيره من ارضه. كلّ ما تبقى تفاصيل وكلام كبير عن "التكفير" و"التكفيريين" يصبّ في عملية تطهير ذات طابع مذهبي تمارس في كلّ الأرض السورية. تُمارس على الاصح، في كلّ ارض يستطيع النظام الوصول اليها تحت غطاء من سلاح الجوّ الروسي وبدعم من الميلشيات المذهبية التابعة لإيران.

يتكلّم في سياق الشريط احد الضباط التابعين للنظام داعيا "الشبيحة" الى نهب كل ما في المنازل المدمّرة ويشجّع على ذلك كواجب وطني. قال بالحرف الواحد: "باذن الله لن يبقى شيء" في حرستا. يظهر في الشريط مسلحون يخرجون من خراب حرستا كلّ ما تقع عليه يدهم من بقايا اثاث وأجهزة كهربائية عائدة الى عائلات فقيرة. المشهد محزن بالفعل ومؤلم، لكنّه مشهد اكثر من طبيعي لمن يعرف ولو القليل عن ممارسات النظام السوري حين كان في لبنان.

اتذكّر صورا التقطها مصورو "النهار" في العام 1982 لانسحاب القوات السورية من بيروت ومحيطها بعد تقدّم الإسرائيليين تجاه العاصمة اللبنانية وبلوغهم مناطق بعيدة عنها مثل مدينة جبيل الساحلية. كانت الصور لقوافل الجيش السوري المنسحبة من بيروت ومحيطها.

تظهر تلك الصور، التي كانت موجودة لدى "النهار" والتي اختفت لاحقا، دبابات سورية ترفع الاعلام البيض في طريقها من بيروت الى دمشق (عند ما يسمّى كوع عاريا تحديدا). كانت بين هذه الدبابات شاحنات تنقل الأثاث والآلات الكهربائية، وحتّى الأبواب، التي نهبت من بيوت لبنانية. قال لي صديق سوري وقتذاك تحدثت معه طويلا عن بطولات بعض الوحدات السورية التي قاتلت الإسرائيليين، خصوصا في سهل البقاع اللبناني، ان النظام قضى على الروح القتالية لدى الجيش. ما رأيته في السلطان يعقوب، حيث خاضت قوات سورية مدرّعة مواجهة مشرّفة مع الإسرائيليين شيء، وما يرتكبه هذا الجيش والمجموعات التابعة له شيء آخر. خلص الى القول: لماذا تريد من النظام السوري ان يتصرّف مع اللبنانيين بطريقة افضل من تلك التي يتصرّف بها مع المواطنين السوريين انفسهم؟

اصرّ الصديق السوري على انّ ما حصل في السلطان يعقوب، في سهل البقاع، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، استثناء وان القاعدة هي القوافل المنسحبة من بيروت ومحيطها مع الآلات الكهربائية وقطع الأثاث والآلات الكهربائية المسروقة من بيوت لبنانية. عادت القوات السورية الى بيروت بعد انسحابها منها في 1982 وذلك بعد افتعال اشتباكات داخل العاصمة اللبنانية وبعد مساومات لم يكن الجانب الاميركي بعيدا عنها في السنوات 1985 و1986 و1987. في تلك المرحلة، كانت عصابات تابعة لإيران تخطف أجانب في العاصمة اللبنانية بحجة انّ المطلوب ممارسة ضغوط على القوى التي كانت طهران تتهمّها بالانحياز الى العراق في الحرب الدائرة بين البلدين. كان التركيز على الاميركيين والفرنسيين بشكل خاص.

منذ سبعينات القرن الماضي، او على الاصحّ منذ وصول حافظ الأسد الى الاستحواذ على كلّ السلطة في خريف العام 1970، لم يتغيّر شيء في سوريا. كان مطلوبا في كلّ وقت الانتصار على الشعب السوري لا اكثر.

لا تبني هذه العقلية، القائمة على الابتزاز دولا حديثة. ما نشهده اليوم في سوريا هو نتيجة منطقية لسنوات طويلة من ممارسة سياسة الابتزاز التي نجحت في توفير غطاء إقليمي ودولي للجيش السوري كي يدخل الى لبنان في العام 1976 بحجة وضع اليد على المسلحين الفلسطينيين وكي يعود مجددا الى بيروت في 1986 و1987 بحجة إعادة الامن اليها ووقف عملية خطف الأجانب. انهّا العقلية نفسها التي تقوم على المتاجرة بـ"داعش". يلعب النظام السوري ومعه الايراني دورا في قيام "داعش" ثمّ يهجم على الشعب السوري مستخدما السلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة بحجة انّه يقاتل الإرهاب وشريك في الحرب عليه.

هناك بكل بساطة أنظمة تبني وأنظمة تهدم. لا يستطيع مثل هذا النوع من الانظمة الرهان على البناء لانّ همه الاوّل تحويل البلد الى مزرعة للطائفة اوّلا، كما كانت عليه الحال في ايّام حافظ الأسد، ثم للعائلة. وهذا ما صارت عليه الحال في عهد بشّار الأسد.

عاجلا ام اجلا ستكون هناك نهاية رسمية للعبة النظام السوري. هذه لعبة استمرّت اكثر بكثير مما يجب. لم تعد من مهمّة امام بشّار الأسد سوى تأمين الانتهاء من سوريا. يتبين في كلّ يوم ان النظام لن يعلن خروجه نهائيا من دمشق قبل التأكّد من انّه لم يعد هناك حجر على حجر في سوريا. اما "سوريا الأسد" او لا سوريا على الاطلاق. هذا كلّ ما في الامر. هذا نظام سلّم الجولان الى إسرائيل ورفض استعادة الهضبة المحتلّة لانّه لا يريد البحث عن السلام في المنطقة. هذا نظام ابقى جبهة جنوب لبنان مفتوحة كي يظلّ الايراني يعمل انطلاقا من لبنان وكي يزرع فيه الفتنة المذهبية السنّية - الشيعية وتستكمل عملية تهجير المسيحيين من البلد في الوقت ذاته. كان أسوأ خبر تبلّغه حافظ الأسد هو الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في ايّار – مايو من السنة 2000. كان لا بدّ من إيجاد عذر كي لا يتخلّى "حزب الله" عن سلاحه الايراني وكي يبقى هذا السلاح موجّها الى صدور اللبنانيين. لذلك افتُعلت قضية مزارع شبعا. لا يزال بشّار الأسد الذي خلف والده بعد أسابيع قليلة من الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان ممتنا الى اليوم للشخص الذي افتعل قضية مزارع شبعا. لا همّ للنظام السوري سوى الهدم والتدمير. كان مستعدا لتغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 لانه يعرف ان هذه الجريمة ستعود بالويلات على لبنان. وكلمة تغطية هنا هي تخفيف لحقيقة الدور الحقيقي للنظام السوري الحاقد على كلّ من يبني، في عملية التخلّص من الرجل الذي أعاد الامل الى لبنان، ولو لسنوات قصيرة.

حصد النظام السوري ما زرعه طوال نصف قرن واكثر. زرع الابتزاز وحصد الدمار. ثمن ما فعله تدمير كامل لسوريا ونصف قضاء على لبنان الذي اختلّ فيه التوازن على كلّ صعيد منذ صار فيه السلاح غير الشرعي، الفلسطيني والميليشيوي اللبناني، ثم الايراني بعد 1982، يتحكّم بمفاصل الدولة اللبنانية ومعظم مؤسساتها.

لم تنته مهمّة النظام السوري بعد. لن تنتهي هذه المهمّة الّا في اليوم الذي تتمّ فيه عملية تقاسم النفوذ والحصص بين الموجودين حاليا على الأرض. من يبقى من يرحل من هؤلاء؟ لا يزال السؤال موضع اخذ وردّ. الثابت الوحيد ألف سلام وسلام على الجولان المحتلّ.

 

خيرالله خيرالله