رغم تعدد تعاريف علم الاجتماع وتنوع مدارسه ورواده إلا أن غالبيتها تكاد تجمع على أنه علم تجريبي يقوم على الملاحظة وإعمال الفكر في الظواهر الاجتماعية التي قد تظهر في المجتمع وتدفع الباحث إلى محاولة تحليلها والكشف عن مختلف جوانبها وإيجاد تفسيرات علمية لها، وبعبارة أوضح: يحاول علم الاجتماع تفسير السلوك الإنساني الصادر عن الأفراد الذين يقومون بالتواصل فيما بينهم...، إنه علم مستقل يتخذ المجتمع وحدة للتحليل، فعلم الاجتماع يهتم بسلوكنا ككائنات اجتماعية.

يتبين إذن أن هناك ارتباطا وثيقا بين السلوك (الصادر عن الفرد) والظواهر الاجتماعية (التي تظهر داخل المجتمع)، وهذا يتطلب منا أولا فهم مصطلح السلوك:

فالسلوك هو كل ما يصدر عن الفرد من أقوال أو أفعال أو تعبيرات يتفاعل بها مع نفسه أو مع فرد آخر أو مع المجتمع المحيط به ككل، وهو إما سلوك ظاهري يمكن ملاحظته مباشرة من طرف الغير، أو سلوك داخلي لا يمكن ملاحظته لكن بالإمكان ملاحظة نتائجه وتأثيراته، علما أن المدرسة السلوكية تحاشت في تناولها للسلوك كل ما يمت إلى الشعور أو التجربة الشعورية بصلة، فحصرت السلوك فيما هو خارجي ملاحظ (بفتح الحاء)، فهو استجابات فورية أو لاحقة لمثيرات وتأثيرات المحيط الخارجي القريب.

ومن هنا تبدأ العلاقة بين السلوك والظاهرة الاجتماعية؛ إذ يتبين أنها علاقة بينية – تداخلية تكون الثلاثي: (السلوك – الظاهرة – المجتمع)، ويظهر ذلك جليا في تعريف إميل دوركايم للظاهرة الاجتماعية؛ إذ هي: كل ضرب من السلوك ثابتا كان أم غير ثابت، يمكن أن يباشر نوعا من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعم في المجتمع بأسره.

الظاهرة الاجتماعية والسلوك الفردي

تهم الظاهرة الاجتماعية المجتمع ككل، يقوم بها أفراد ينتمون لمجتمع ما سواء في وقت واحد أو في أوقات متقاربة ومتتالية، لاسيما إذا كنا في مجتمعات تنتقل فيها المعلومة بشكل سريع وفعال (ومضمون الوصول) مما يقود إلى التقليد الحتمي الأعمى في غالب الأحيان، فلا يكفي أن تكون الظاهرة (ايجابية – نافعة) كي تنتشر بين أفراد المجتمع، بل على النقيض من ذلك، فغالبية الظواهر المشينة أو الضارة بالفرد والمجتمع أو عديمة الجدوى بغض النظر عن ضررها من نفعها هي المؤهلة للانتشار كالنار في الهشيم داخل المجتمع، فينبري لها الأطباء إن كانت تمس بالصحة وعلماء الدين إن كانت تمس بالأخلاق... ويتناولها الإعلام ويدعى لها علماء النفس والاجتماع والتربية قصد تحليلها وتفسيرها.

لكن غالبا ما يتم تغييب السلوك الفردي منشئ الظاهرة الذي يعم في المجتمع بأسره ويتطور ويتناسل ليشكل فيما بعد الظاهرة الاجتماعية، فالفرد هو الذي ينتج السلوك، ومجموع السلوكات التي تتسم بالتشابه والتطابق تشكل الظاهرة الاجتماعية. خلاصة الأمر أن ما يروج في المجتمع من ظواهر مهما كانت هي نتاج لفعل الأفراد (بشكل منفرد أولا)؛ إذ لا يمكن تصور اتفاق أفراد من مجتمع ما على القيام بسلوك معين في آن واحد وبشكل متطابق ليشكل ظاهرة اجتماعية فيما بعد.

المجتمع المغربي نموذجا:

يعرف المجتمع المغربي حاليا - وعلى غرار مجتمعات أخرى- انتشار العديد من الظواهر الاجتماعية، منها مثلا: الانتحار، الاغتصاب العلني، انتشار الصورة الصادمة عبر مواقع التواصل الإجتماعي...، ويتم حاليا النقاش حولها والخوض فيها من طرف المختصين في علم النفس والباحثين في علم الاجتماع وكذا الإعلاميين والمربين وحتى الأشخاص العاديين، وقد ذهبت غالبية مخرجات هذه النقاشات إلى إرجاع أسباب الظواهر المذكورة وغيرها إلى: أزمة القيم والتحولات الاجتماعية التي يعرفها مجتمعنا، وأراء أخرى اتهمت ثلاثي: الأسرة-المدرسة-الإعلام، فيما ظلت آراء أخرى حبيسة ما يعرف عند السوسيولوجيين بالحس المشترك، لكن غالبية هذه الآراء والتحليلات كانت تخوض في الظاهرة في حد ذاتها دون الرجوع إلى السلوك الفردي المنشئ لهذه الظاهرة بالبحث والتحليل – كما سبقت الإشارة إلى ذلك - باعتبار أن هناك (تصرفا ما) صدر عن (أحد أفراد المجتمع) بسبب دوافع مختلفة.

هنا لا أقصد ما يعرف بالحالة الفردية المعزولة إطلاقا التي قد يفهم منها تبرير السلوك، بل المقصود هنا هو ربط هذا السلوك بداية الأمر بمرتكبه قصد الوصول إلى تشخيص منطقي وسليم، ومن ثم اقتراح الحلول الناجعة. فتناول الاغتصاب في الفضاء العام، مثلا، كظاهرة اجتماعية في شموليتها تقود إلى غياب التربية الجنسية السليمة والبحث عن الذات (الشهرة) الناتج عن فقدان الثقة، وكذا تغييب القيم الروحية في التربية الدينية مقابل التركيز على العبادات كشعائر تعبدية تؤدى بشكل آلي... وغير ذلك من الأسباب. لكن بالرجوع إليها يتبين أن هذه الأسباب تهم الفرد أولا منذ نشأته داخل الأسرة قبل أن تهم ما هو عام كالتعليم، الوضع الاقتصادي/الاجتماعي، الإعلام، ... ويظل الأمر يهم الفرد (تربية وإصلاحا وتقويما) على مستوى الأسرة إلى غاية انفصاله عنها، بل وينسحب الأمر أيضا حتى على مرحلة "العقاب/الإصلاح"، أي داخل المؤسسة السجنية، لتفادي حالة العود التي ميزت العديد من حالات الإجرام بشكل مأساوي.

الحديث هنا ليس عن ظاهرة معينة، خاصة وأن الحالة/المثال التي أوردت أسالت وستسيل الكثير من المداد إلى حين بروز حالة جديدة، إنما يتعلق الأمر بإحالة على منهجية سوسيولوجية سليمة تمكن من وضع الأصبع على مكمن الداء.

إذن لا محيد عن دراسة السلوك الفردي قبل تناول أي ظاهرة اجتماعية بالدرس والتحليل، وهو ما يتماشى مع أهداف علم النفس (الاتجاه السلوكي) الذي ينطلق من فهم السلوك وتفسيره، ثم التنبؤ بما سيكون عليه السلوك، وفي الأخير ضبط هذا السلوك والتحكم فيه، وهو ما سيمكننا من تحقيق أمرين هامين:

- تحديد مثيرات وممهدات حدوث السلوك.

- إمكانية معالجة السلوك في مهده قبل تحوله إلى ظاهرة تعم المجتمع.

إن الحلول المتوصل إليها ستقودنا لا محالة إلى "وصفات" تنطلق من الفرد لعلاج هذه الظواهر وغيرها، وهو ما يمكن أن نسميه بالاستثمار في العنصر البشري: أي الفرد منذ الولادة (التنشئة الاجتماعية) بحمولة تربوية اجتماعية وليس بصيغة الإستثمار في الموارد البشرية ذات الحمولة الاقتصادية/التدبيرية التي غالبا ما تحول الفرد إلى وسيلة إنتاج دون الأخذ بعين الاعتبار القيم التي يحملها وتأثير ذلك على سلوكه، والحديث هنا لا يهم سلوكات فردية معينة - يتطلب ذلك تحليلا عميقا وتشخيصا خاصا بكل حالة - وإنما يتعلق بمنهجية يمكن أن نمسيها تقنية/سوسيولوجية تتحول فيما بعد إلى وسيلة تربوية ناجعة (في اصطلاح علم النفس التربوي) تجعلنا نصل إلى الغاية المنشودة ألا وهي تفادي انتشار المزيد من السلوكات الفردية الماسة بقيم المجتمع قبل أن تتفاقم وتتحول إلى ظاهرة اجتماعية.

 

لكهـل البـيـلال*


 

*باحث في السلوك الاجتماعي