لم يكن حديث ترامب عن الانسحاب من سوريا إذن فلتة من فلتاته، فهكذا تصريح بهكذا موضوع يخص السياسات الخارجية العليا في الولايات المتحدة لا يمكن أن يصدر من فراغ، بل الأرجح أنه نتيجة مباحثات متواصلة مع فريق مستشاريه في أضيق حلقاته. ولأن الدوائر الأخرى من خارجية ودفاع لم تكن قد أبلغت رسميا بهذا التوجه لمستشاري البيت الأبيض، فإن تصريحات المسؤولين الأمريكيين في الخارجية والدفاع بدت وكانها تعارض أو تجهل نية الانسحاب، فأخذنا نسمع عن تصريحات تؤكد بقاء القوات الأمريكية بل وزيادة عددها، ونفي من وسائل الإعلام الأمريكية للخروج من سوريا، وذهبت كثير من وسائل الإعلام العربية إلى أن المراد من كلام ترامب هو ابتزاز السعودية لدفع المزيد من المليارات للبقاء في سوريا، وكأن دولة عظمى كالولايات المتحدة تتخذ قرارات سيادية تمس أمنها القومي بناء على حسابات تجارية بحته أو بانتظار رشى مالية!
ولعل ما عزز التوقعات عند المراقبين العرب بعدم جدية الأمريكيين بالانسحاب من سوريا هو التقارير التي صدرت من واشنطن سياسيا وإعلاميا، وكذلك التحليلات التي استبعدت هذا الأمر، واعتقد أن ذلك يظهر أن ما ينشره الإعلام الأمريكي، من تقديرات تمس حتى شأنا أمريكيا داخليا، يفترض أنهم أكثر دراية وتمرسا في استجلاء خباياه، قد لا يكون دقيقا دائما. وفي المقابل فإن الباحث سيجد أن الكثير من الكتاب الأمريكيين والباحثين المقربين من دوائر اتخاذ القرار الامريكي، قد تحدثوا في مقالات منشورة، عن وجود خلافات وتباين للآراء حول مستقبل الوجود الأمريكي في سوريا، بل إن بعضهم طالب ونصح بالانسحاب من سوريا. ولكن المعضلة هي أن هذه الآراء لا تصل غالبا للجمهور العربي لأن هناك انتقاءً لما يتم تسليط الضوء عليه، فتجد أن باتريك كلاوسون، مدير الأبحاث في معهد واشنطن، يتحدث عن وجود أفكار لدى بعض المسؤولين الأمريكيين بالخروج من سوريا، في وقت أسرع، وأن الزوار القادمين لواشنطن يخرجون باستنتاجات متباينة ومختلفة عن الموقف الأمريكي بعد لقائهم بالساسة الأمريكيين، وقد يستغل الخصوم هذا التباين في مواقف السياسات الأمريكية، خصوصا بعد إقاله تيلرسون.
بينما يذهب كاتب آخر هو ارون ستين إلى ضرورة تحقيق انسحاب أمريكي من سوريا واصفا إياه في مقال نشره في مجلة «فورين افيرز» بالعقوبة الروسية. ومع رأيه بوجوب التفاوض مع روسيا لتحقيق الانسحاب إلا أنه يرى أن سحب القوات هو خطوة أولى قبل تصعيد أمريكي ضد إيران وكذلك روسيا، التي وصفها بالعدو الجيوسياسي الأول، وهو كلام لا يبدو مستبعدا مع تنصيب الإدارة الأمريكية لمجموعة مع الصقور المعروفين بمواقفهم المتشددة ضد إيران وعلى رأسهم بولتون.
وبعيدا عن الإرباك الذي حصل في قراءة التصريحات الرسمية الأمريكية حول الانسحاب من سوريا فإن الموقف الأخير الذي رشح بعد اجتماع ترامب بمستشاريه في الأمن القومي حول تحديد فترة ستة أشهر للانسحاب، يبدو هو السيناريو القادم، فالانسحاب لا بد أنه سيتم وفق جدول زمني، يراعي خطط العمليات القائمة للأمريكيين شمال سوريا.
قد تطول فترة البقاء أكثر من ستة أشهر ربما، أي لما بعد انتخابات الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لكن من الواضح أن الانسحاب سيتم وإنْ بعد حين.
 وبعيدا عن التصريحات الصادرة من المسؤولين الأمريكيين التي قد تبدو متباينة فإن الواقع القائم في شمال سوريا يقود إلى هذا الاستنتاج، فعلينا أن نتذكر أولا أن عدم الزج بقوات أمريكية برية مقاتلة، هو  التوجه الأمريكي الذي أجمع عليه معظم الساسة الامريكيين بعد الانسحاب من العراق. ومن المهم ثانيا فهم أن قدرة الأمريكيين على التواجد والعمل في أرض ما، يعتمد بصورة كبيرة على حلفائها المحليين، وعلى هذا الاعتبار، فإن الأكراد في شمال سوريا باتوا أرضا زلقة للجيش الأمريكي بسبب ميل توازنات القوى في سوريا لصالح إيران والنظام أولا، وثانيا، وهو أمر بالغ الأهمية، وهو أن الاشتباك الحاصل بين المصالح الأمريكية في شمال سوريا وبين أكبر حلفائها في المنطقة وهي تركيا، بسبب الأكراد، بات إشكالية لا يمكن تجاوزها، خصوصا مع وجود قوى أخرى تحاول تركيا من خلالهم تحقيق رغبتها بإبعاد الأكراد المحميين أمريكيا، كروسيا وإيران، وهما يرغبون باتمام هذه المهمة بمنتهى الحماسة التي قد تتجاوز الحماسة التركية نفسها، لأنها تصب في صلب مصالحهم ورؤيتهم الاستراتيجية في سوريا، وهي إبعاد واشنطن من مناطق النفوذ الروسي والإيراني في المشرق العربي، وتقليم أظافر الكيانات الكردية بالنسبة لرؤية طهران على الأقل. وهكذا وفي خضم هذا الاشتباك بات الأمريكييون يدركون أنهم سيتحولون في شمال سوريا، لنقطة «تنف» جديدة كما حالهم عند مثلث الحدود العراقية الأردنية السورية، محاطين من قبل القوى الموالية لإيران، والتي قد تنضم لها قوى كردية تنجح دمشق وطهران باجتذابهم، وسحبهم لجانبهم. ولهذا ربما، وجد الأمريكييون أن الخيار الأفضل للتخلص من هذا الوضع المرتبك هو العودة خطوة للوراء، ربما من أجل قفزة للأمام بتصعيد المواجهة مع طهران إقليميا، وهي مواجهة قد لا تكون مضمونة النتائج، بعد التفاف أذرع الأخطبوط الإيراني على مفاصل الشرق الأوسط، وتمكنه من إخضاع عواصم القرار  لحلفائه رغما عن حلفاء الولايات المتحدة فيها. ولا شك أن تعزيز حلف موسكو مع طهران سيضيف ورقة قوة دولية لإيران في مواجهة أمريكا، القطب الدولي المترنح أمام كل القوى في المنطقة عدا الدول العربية الذين سيبقى البيت الأبيض هو قبلتهم وحائط مبكاهم،  مهما أثبتت الأحداث لهم أن استقواءهم بالولايات المتحدة لم يجلب لهم سوى المزيد من الهزائم، مقابل منحهم لترامب «شيكا على بياض»!     


وائل عصام