«لا داعي للنهوض فجرا من أجل ديمبلبي المصري». بهذا علق مذيع راديو بي بي سي 4 آدي ماير على الحدث العظيم في مصر. سخرية انكليزية من «المسخرة الانتخابية» المصرية، كما سمتها المبعوثة الصحافية الفرنسية إلى القاهرة سارة دانيال. سخرية بجملة واحدة رشيقة إلى حد الإيلام. 
والقصة هي أن اسم مذيع بي بي سي الشهير ديفيد ديمبلبي قد اقترن في بريطانيا بالانتخابات. فقد جرت العادة، منذ أكثر من أربعة عقود، بأن يتولى هو قيادة الفريق التلفزيوني الذي يغطي نتائج فرز الأصوات من جميع مراكز الاقتراع في البلاد. يجلس ديمبلبي، بحضوره المميز وبيانه الموزون، في الاستوديو بينما يعمل فريق المراسلين على موافاته بنتائج الفرز أولا بأول. أي أن كل انتخابات تعقد في بريطانيا إنما تتضمن موعدا مع ليلة كاملة حافلة بالعزف الصحافي بقيادة المايسترو ديمبلبي. 
ولهذا فقد قال زميله جريمي باكسمان إنه يبدو أن لآل ديمبلبي مكانة دستورية في بريطانيا تضاهي مكانة العائلة المالكة. وهذا بالطبع تعليق لا يتسم بالحياد. وإنما الأصح أن الاقتران بين ديفيد ديمبلبي والانتخابات هو مما يلفت النظر في الثقافة السياسية البريطانية المعاصرة. كما أن لآل ديمبلبي مكانة مرموقة في الصحافة البريطانية، حيث أن جوناثان (شقيق ديفيد) هو من ألمع المذيعين والصحافيين في البلاد. أما الأب الراحل، ريتشارد، فقد كان من أوائل مذيعي راديو بي بي سي مطلع الثلاثينيات. وقد اشتهر بالتقرير الذي بعثه، يوم 15 ابريل/نيسان 1945 من معسكر برغن-بلسن الذي قتل فيه 23 ألفا من الضحايا والذي كان أول معسكر إبادة نازي يقع في أيدي القوات البريطانية.
وبما أن عموم المواطنين، مهما كانت درجة شغفهم السياسي واهتمامهم الانتخابي، لا يستطيعون السهر طوال الليل، فإن ما يفعلونه عادة هو أن يناموا ثم ينهضوا فجرا أو صبحا «من أجل ديفيد ديمبلبي»، حيث يكون آنذاك قد صار عنده الخبر اليقين: اسم الحزب الذي سيشكل الحكومة الجديدة بفضل فوزه بأغلبية الأصوات. ولا معنى لهذا كله، بطبيعة الحال، إلا لأن الاحتمالات شتى والنتيجة مجهولة. لا معنى لهذا كله إلا لأن الانتخابات نزيهة والمنافسة حقيقية.
أما عندما تكون النتيجة محسومة سلفا، ويكون فوز فخامة الرئيس مجددا مجرد تحصيل حاصل، فلا داعي للسهر ولا للنهوض فجرا، بل ولا داعي لمشاهدة التلفزيون أصلا. مع أن الفنان المسرحي فاضل الجزيري قد أصاب، منتصف السبعينيات، عندما قال في مسرحية «غسالة النوادر»، تعليقا على هوان شأن الإعلام في تونس ومثيلاتها من البلدان المحرومة من الحرية آنذاك، إن «أخبار الناس عند الناس وأخبار الحاكم في التلفزة». ولو توخى مذيع راديو 4 مزيدا من الدقة لقال: «لا داعي للنهوض فجرا من أجل ديمبلبي العربي». ذلك أن «المسخرة الانتخابية» ليست استثناء مصريا، وإنما هي حالة عامة يتجلى فيها مدى التضامن الفعلي (لا مجرد التحالف الموضوعي) بين أنظمة الحكم المضحكة المبكية في الدول العربية.
وقد سبق للباحث الفرنسي جان بيار-فيليو أن قال: لقد أمضيت أكثر من ثلاثين سنة أجوب العالم العربي وأدرس الحياة السياسية العربية، وأظن أنني فهمت كل ما بحثته واستقصيته، إلا مسألة وحيدة أعياني إلى اليوم فهمها واستغلقت علي حكمتها، وهي: لماذا يكلف الحكام العرب أنفسهم عناء تنظيم انتخابات؟ فيم كل هذا التمرين العقيم من الأساس؟
أما المؤلف المسرحي توفيق الجبالي، فقد طرح القضية بكامل سماجتها وعبثيتها في مسرحية «كلام الليل». كان ذلك منتصف التسعينيات، عندما كان نظام بن علي يعدّ على الناس الأنفاس. قال الجبالي: «حالما تتاح لي الفرصة سأفاتحه في الموضوع. سأقول له: أتوسل إليك بحياة أعز الناس عندك أن تعفينا من هدرة (حكاية) الانتخابات هذه!إنها بلا طعم. لا تناسبنا. لا تليق بنا. «ما هيش متاعنا». كم هو حجم بلادنا؟ نحن عائلة واحدة، ويكفي أن يوقّر الصغير الكبير. ثم من الذي أتاك وخاطبك في موضوع الانتخابات أصلا؟ هل طلب منك أحد التعجيل، خوفا من فوات أوان الانتخابات؟ وفيم كل هذه المصاريف على الحملات والملصقات والغيرة والصناديق وساندويتشات الموظفين والمنتدبين في مراكز الاقتراع؟…يا أخي إن كان لا بد من درء تدخلات الأجانب ومماحكاتهم، إن كان لا بد، إذن فلتترك لهم الديمقراطية ولتأخذ معك الانتخابات!».

مالك التريكي

 

كاتب تونسي