لقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، في تعرية جزء يسير من الظواهر الاجتماعية، في المغرب. كما استطاعت أن تحول بعض الحالات إلى قضايا رأي عام. لكن الواقع المجتمعي، يخفي أفظع وأبشع من تلك الحالات والقضايا، إلا أن صمت الضحايا في أغلب الأحيان يستعمل كستار لها. وهذا ما ينطبق على محاولة الاغتصاب الشهيرة، أيضا. فلولا تسريب ذلك "الفيديو"، لما عرف أي منا شيء عن هذه الجريمة، وللتزمت الطفلة "خولة" الصمت، واكتفت به إلى أجل غير مسمى. ولو تكررت الأحداث، وفتح باب الاختيار أمام الضحية، لاختارت أن تسلك سبيل "الصمت"، وكتمان ما وقع مجددا، ولن ترضى بخروجه إلى العلن، ولفضلت لملمت جرحها بنفسها، على أن يقاسمها المجتمع بأسره هذا الأمر.

إن القاصر "خولة" ليست الوحيدة التي تعرضت لمحاولة اغتصاب، أو اغتصاب، أو تحرش لفضي أو جنسي، ثم قررت الصمت عن ما وقع لها، بدل أن تجاهر بذلك، وتحاول نيل حقها من الجاني. ففي المغرب، تتعرض النساء بشكل يومي لمختلف أشكال التحرش والاغتصاب، إلا أن أغلبهن يفضلن عدم سلك المسار القانوني الصحيح، نظرا لطبيعة المجتمع المغربي؛ فحتى في الحالات التي تثبت فيها المرأة بأنها "ضحية"، وأن مقومات الجريمة مكتملة، وبأن الجاني يستحق العقاب، يكون عليها أن تواجه مستقبلا مليئا بالصعوبات والعراقيل، التي تضخم من أزمتها النفسية، أكثر فأكثر. وتجد الضحية نفسها- في الغالب- مجبرة على مواجهة الغمزات واللمزات والعبرات اللاذعة من محيطها الاجتماعي، في كل خطوة من حياتها.

أجل كلنا نتضامن مع مثل هذه الحالات، تضامنا إلكترونيا قويا، وكلنا نعبر عن رفضنا الشديد لمثل هذه الممارسات اللأخلاقية، لكن هل تساءل أي منا عن مدى قدرته لتقبل مثل هذه الحالات داخل المجتمع في المستقبل؛ هل سنتقبل استمرارها بشكل طبيعي كما لو أن شيء لم يكن؟ وهل سنقبل اندماجها مجددا بيننا، بالشكل السليم الذي ينبغي عليه أن يكون؟ سواء داخل الأسرة أو في المدرسة أو في الشارع، أو في مختلف المرافق العمومية، وهل سنمنح مثل هذه الحالات فرصة للاستمرار بشكل طبيعي، كتلميذة أو طالبة أو عاملة أو موظفة في أي قطاع من القطاعات؟ وهل سيقبل أي شاب من الشباب الذين عبروا عن استيائهم الشديد من الواقعة، أن يرتبط مستقبلا بهذه "الضحية"؟ وهل سيقبل محيطه الأسري بهذا الارتباط؟ لا أظن، لأنه ببساطة، لا يتماشى مع تمثلات وأعراف هذا المجتمع، ولا مع خصوصية نسقه الثقافي. لهذا أقول، بأننا مجتمع يرضى بالصمت عن الحق، ولا يرضى بالفضيحة، ويرضى بأن تهضم حقوق المتحرش بهن أو المغتصبات، على أن يواجه هول كلمة "العار". وتكرس مثل هذه الأفكار، ويعاد إنتاجها، بشكل علني وضمني، عبر مختلف آليات التنشئة الاجتماعية.

كما يجد صمت ضحايا التحرش الجنسي أو الاغتصاب، مبررا له، في ردة فعل بعض الفئات المجتمعية، التي تتبنى رؤية سلبية اتجاه المرأة بشكل عام، وتعتبرها السبب الأول والرئيسي لما يقع لها من تحرش لفضي أو اعتداءات جنسية. وبدل أن تناهض مثل هذه الممارسات اللإنسانية واللاخلاقية، نجدها قد تجندت لرفع شعار "المرأة هي السبب في ما وقع"، واللوم كل اللوم على اختياراتها هي وليس على الجاني. وهو ما حدث بالفعل في حالة التلميذة، والقاصر، و"المحجبة" خولة، إذ لم تشفع لها أي من الأوصاف السابقة، عند هذه الفئات، ولم يتوانى بعضهم عن إلقاء اللوم عليها، والتشهير بها بشكل صريح. ورغم أن قدسية الجسد وحرمته، كافية للوقوف ضد هذه الأفعال المشينة، إلا أن البعض يتجاوزها بحجة أن المرأة هي السبب، وأنها هي من جرت على نفسها، لأنها لم تلتزم بقواعد أو معايير معينة. وتبرير هذه الفئات المجتمعية، لا يسيء للضحية فقط، بل يشجع البعض على القيام بمثل هذه السلوكات، أو على الاستمرار فيها، كما يخلق لدى الجاني شعورا بالراحة النفسية.

إن كنا فعلا، نود التقليل من نسب هذه الظواهر الاجتماعية، لا بد علينا أولا وقبل كل شيء أن نتصارح مع أنفسنا، ونتقبل فكرة مسؤوليتنا جميعا، اتجاه ما يقع من حولنا. علينا أن نستوعب أسباب صمت الضحايا، ونحاول التخلص منها. فمن حق كل إنسان سواء كان امرأة أو رجلا أو طفلا، تعرض للتحرش الجنسي أو محاولة الاغتصاب، أو اغتصاب فعلي، أن يصرح أمام الملأ بما وقع له، دون خوف أو تردد أو تأخير. وعلى المجتمع بشتى مكوناته، أن يعمل على إعداد أجيال جديدة أكثر تقبل لضحايا هذه الجرائم، أجيال قادرة على التعامل بشكل سليم مع هذه الحالات. وكلما تعثرنا في الوصول إلى هذا التغيير، كلما أتيحت فرص أخرى "للصمت" خوفا من "العار" و "الفضيحة"، وخوفا من مستقبل أكثر ظلاما مما هو عليه. وكلما تعثرنا في تحقيق هذه الأهداف، نكون قد سمحنا بتكرر سيناريوهات الابتزاز والتهديد، مرات جديدة.

وبالإضافة إلى ما سبق، يعد تفشي ظاهرة التحرش الجنسي أو الاغتصاب، في دول العالم الثالث، وتزايد أعدادها، سنة بعد سنة، مؤشرا واضحا على خلل في آليات التنظيم الاجتماعي، المعتمدة داخل هذه الدول. كما يعد نتيجة طبيعية لما يعرفه بناءها الاجتماعي، من مشاكل وتحولات عديدة؛ فارتفاع نسب الفقر وانتشار البطالة والوضعيات الاجتماعية الهشة، يساهم في توسيع رقعة "الهامش" أو "المقصي"، وفي هذا الجانب المخفي من المجتمع، تبنى مختلف أشكال "المحظورات" بشكل دوري، وتتراجع قدرة آليات الضبط الاجتماعي وآليات الادماج الاجتماعي، مما ينتج عنه، أفراد بدون هدف أو رغبة في الاستمرار، وعلى استعداد تام لتجاوز القوانين والمعايير والقيم الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، فإن سيادة علاقات الهيمنة والسلطة، وما يرافقها من أشكال العنف المادي والمعنوي، داخل هذه المجتمعات، يلعب دورا مهما في إنتاج مثل هذه الظواهر الاجتماعية، باعتبارها شكل من أشكال إعادة إنتاج العنف أو السلطوية الممارسة على الأفراد.

وفي الختام، أؤكد على أن كبح انتشار ظاهرة التحرش الجنسي والاغتصاب في المغرب، مسألة عميقة جدا. تستدعي تظافر جهود جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية في آن واحد، لبناء سلسلة منظمة من التغيرات الجذرية، التي تصب في ما هو سوسيوثقافي، ونفسي، واقتصادي. وفي انتظار تحقق هذه الآمال، لا يسعنا في الوقت الحالي، إلا أن نرفع شعار رفض "الصمت" عن مثل هذه الأفعال، وندعو إلى دعم اندماج الضحايا بشكل إيجابي، في المجتمع.


 

فاطمة الزهراء بكوش