بعد أن بسط الجيش التركيّ وحلفاؤه من المعارضة السوريّة المسلحة سيطرتهم على مدينة عفرين شمال غرب سوريا، وذلك بعد سنوات من حكم وحدات حماية الشعب (الكُرديّة) لها، فقد آنَ الأوان لفتح صفحة ما بعد عملية «غصن الزيتون»، فالحرب التي استمرت قرابة الشهرين لم تكن سوى بداية بنك أهداف الحكومة التركيّة.
التفاهمات الدوليّة التي سبقت بدء «العملية» كانت قد أنهت نتيجة المعركة قبل بدايتها، فجولات «أستانه» المتكررة بين كُلّ من روسيا وتركيا وإيران وضعت النقاط على حروف الكثير من مناطق الاشتباك بين أطراف الحرب السوريّة التي لم يكن للسوريّ فيها سوى القتل والتشريد.
تنازلات «مؤلمة» من جميع الأطراف رسمتْ خريطة تحالفات جديدة لم يكن بالإمكان تخيّلها في السنوات الأولى للأزمة السوريّة الممتدة منذ آذار/مارس العام 2011.
تركيا التي أسقطتْ مقاتلة السوخوي الروسيّة في أواخر العام 2015 أصبحتْ الآن الشريك فوق العادة لكل قرارات موسكو المتعلقة بمناطق التوتر بين حلفاء الطرفين في الأرض السوريّة.
وإيران التي جاهرت بالعداء لأنقرة هي اليوم تنسق مواقفها لتصل إلى حدّ التطابق مع الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان، والذي كان يتّهم طهران بأنّها سبب بلاء الشرق الأوسط عبر دعمها لحركات إسلاميّة شيعيّة، وسعيها لإنشاء هلال شيعيّ.
ولكن ما التالي؟
تركيا تعيش نشوة الانتصار في عفرين فهي كسبت مرتين، أولها بدقّ إسفين في حلم كرد سوريا بإنشاء إقليم فيدراليّ متصل، يمتدّ من ديريك (المالكية) شرقاً إلى عفرين غرباً، وربما كان الطموح أنْ يصل إلى البحر المتوسط ليصبح كياناً قابلاً للحياة.
وثانيها هو ضرب عدوّه الرئيسيّ حزب العمال الكردستانيّ، والذي يخوض معه صراعاً دموياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، ويعتقل زعيمه عبد الله أوجلان الذي يقضي حكماً بالسجن المؤبد داخل سجن مرمرة الواقع في جزيرة إيمرالي.
الأتراك يتهمون حزب الاتحاد الديمقراطيّ بأنّه الفرع السوريّ للـ «العمال الكردستاني»، وبالتالي يعتبرون السيطرة على عفرين هي ضربة للمشروع الأوجلاني ككل.
الهدف التالي سيكون مدينة منبج، وهي منطقة التواجد الأمريكيّ الوحيدة في غرب الفرات، وتسعى أنقرة بكل ما لها من تأثير لإبرام اتفاق مع الولايات المتحدة لإخراج مقاتلي «الوحدات» منها، واقترحت مؤخراً أن تكون الإدارة العسكريّة مشتركة بينهما. وهي بذلك تريد أن يكون الاتفاق تمهيداً لاتفاقات لاحقة تتعلّق بشرق نهر الفرات.
وكانت قد أعلنت عن الصيغة النهائيّة لما أسمته اتفاقاً منجزاً، لكن تغيير وزير الخارجيّة الأمريكيّة أجّلَ من ظهوره للعلن.
لكنّ الأكيد هو إنّ الهدف التركيّ لن يقف عند هذا الحدّ، فالقيادة التركيّة أعلنت غير مرّة أنّها ستطرد مقاتلي وحدات حماية الشعب من غرب الفرات وشرقها، كما تهدف إلى تحطيم صورة المقاتل الكرديّ الموسوم بالشجاعة وذلك خلال سنوات قتاله تنظيم «الدولة الإسلاميّة» (داعش) وحتى انتزاع عاصمتهم الرقة.
وقد تشكل الأهميّة الاستثنائية للحرب الكرديّة التركيّة في عفرين سبباً إضافياً لمقاتلي «الوحدات» للانتقال من حالة الدفاع المنظّم عن المدينة إلى الهجوم المباغت في أماكن متعددة، وعدم التسليم بالهزيمة الكاملة.
مصير سكان عفرين ربما يكون أهمّ القضايا وسيبنى عليه مصير المدينة التي آوَت آلاف النازحين من مناطق الصراع السوريّة القريبة منها؛ ومع حالات التوحّش التي رافقت دخول الكثير من القرى والبلدات، والهجرة الكبيرة التي تلت تلك الممارسات سيكون مصير هؤلاء مجهولاً.
عفرين تضمّ خليطاً إثنيّاً ودينيّاً وطائفيّاً كبيراً، من علويين إلى موارنة وإيزيديين، وغيرهم، وبعد انتشار عدد من المقاطع المصوّرة التي تبيّن تمثيل عدد من عناصر المعارضة السوريّة المسلحة بجثث مقاتلي «الوحدات» والاستهزاء بمعتقدات الكثيرين منهم يكون التخوّف كبيراً على مستقبل هذه الأقليّات، وعلى مستقبل النازحين منهم، وكل ما مِن شأنه تغيير التركيبة السكانيّة لهذه المناطق.
الصفقات التي عُقدت بين القوى المتصارعة في الأزمة السوريّة غالباً ما نتج عنها تغيير كبير في الخارطة الميدانيّة، كالتي حدثت أواخر العام 2016 حين قايضت روسيا وتركيا ما بين مدينة حلب لتكون من حصّة الحكومة السوريّة، وبين مدن جرابلس والباب والراعي، أي ما اصطلح على تسميتها بمناطق «درع الفرات» حين سيطر الجيش التركي وحلفاؤه من المعارضة السوريّة المسلحة على هذه المناطق، قاطعة الطريق على «قوات سوريا الديمقراطيّة» لربط إقليمي كوباني (عين العرب) وعفرين.
وكذلك الصفقة الجديدة بين موسكو وأنقرة، والتي تخلّت بموجبها أنقرة عن دعمها للفصائل المسلحة المقاتلة في الغوطة الشرقية، مقابل دعم روسيّ لعمليتها العسكريّة في عفرين والمسماة «غصن الزيتون».
وفي كل الصفقات التي تمّت، والتي ستتمّ، يكون السوريّ وحده الذي يدفع ثمن حرب الآخرين على أرضه، وتُستخدّم قضيته العادلة في المحافل الدوليّة فقط حين يريد الآخرون تحقيق مصالحهم في بلده.
كاتب سوري

آلان حسن