الميراثُ مُشكلٌ اجتماعي كبير.. فما العمل؟

هو لا يقتصرُ فقط على حُقوقِ المرأة في الأسرة..

يمتدُّ إلى حقوقِ كلِّ مُواطنِ في الوطن..

وفي الحالتين ـ الأسرة والوطن ـ ما زالت مُؤسساتُ الدولة تغضُّ الطرفَ عن المشكل في أساسِه: وتتركُ المجتمعَ مُنقسمًا على نفسِه، يتصارعُ ويَتقاتل، رغم أن الميراثَ ليس مسألةً اجتماعية فقط، بل أيضًا مسألة قانونية.. ومن واجب الدولة، أن تحسمَ فيها بشكل يخدمُ الوطنَ والمواطن..

ولا اعتمادَ على فقهاءَ مُتسيّسين.. تابعين.. ذوي مصالح..

ولا على أحزاب انتهازية... الأحزابُ عندنا لا يُعتمدُ عليها.. هي فارغة.. والنقابات كذلك..

والشعبُ مُنقسم..

والدولةُ ـ بمؤسساتِها ـ تترُك البلادَ في حالة نقاش لا يُجدي، وصراع بين النصِّ الديني، والاجتهاداتِ الفردية، وتوصياتِ منظماتٍ حقوقية، وقوانينَ دولية..

تملصَت من مسؤولياتها، واقتصَرت على «مُدونة الأسرة» التي كان هاجسُها تقليصَ حجم الصراعات، أكثر مما هو حلٌّ للمشكل من أساسه..

وجاء «المجلسُ الوطني لحقوق الإنسان»، وهو مؤسسةٌ وطنية مستقلة عن الحكومة، ووضعَ توصيةً للمناصفة بين الرجُل والمرأة في الإرث.. التوصيةُ لم تحسم في مسألة المناصفة، بل شحَذت النقاشاتِ العمومية، فبقي الحالُ على حاله، أي: «للذَّكرِ مثلُ حظ الأنثييْن»..

وما زال النقاش مُحتدًّا بين من يتعاملون مع المناصفة تعامُلَهم مع النص الديني، بشكلٍ حَرْفي، وآخرين مع الإنسان: أي لا فرقَ بين ذكرٍ وأنثى، في مسألة الإرث..

وحصَل تطوُّرٌ آخر: الطبيبةُ والباحثة «أسماء المرابط» قدّمت استقالتَها من مركز الدراسات والأبحاث في قضايا المرأة التابع «للرابطة المحمدية للعُلماء في المغرب»، بسبب دفاعِها عن المساواة في الإرث بين الرجُل والمراة..

فئاتٌ سَلَفية هاجمَتها بشراسة.. وما زالت، وكأن الموضوع ديني محض، بينما هو مشكلُ حقوق اجتماعية، وليس فقط أُسرية..

وأَعقَبَ ذلك هجومٌ على هذه الباحثة، وعلى من يؤازرُونها بشأن المساواةِ في الميراث..

واستمرَّ النزاعُ المجتمعِي بين من يُطالبون بمَدنيةِ القوانين، ومن يطالبون بتنفيذ «وصية الله»، ويقصدون بها «للذَّكَرِ مثل حظ الأنثيَيْن»..

والدولةُ تتفرّجُ على مُجتمعٍ مُنقسِم..

وتترك الناسَ يتصارعون، وكأن المسألةَ مسألةُ حربٍ بين الدين والحداثة..

وما زال الوضعُ على حاله..

وأمُّ الوزارات تتدخلُ بتَتبُّع النقاشات حول الإرث، على المواقع الاجتماعية..

وهكذا تُبعِدُ الدولةَ عن الصفوفِ الأمامية، وتُبقي النزاعَ بينَ مجتمعِ التساوي في الإرث، ومجتمعٍ يعتير المرأةَ مجردَ نصفِ إنسان، في مسألةِ الإرث..

وتبقى الدولةُ بعيدا عن المواجهة بين فئتين من المجتمع..

فئتان يستحيلُ «التحاورُ الناجِح» بينهما، لأنَّ الأمر يأخذُ بُعدًا ذا حسَاسيةٍ قُصوى..

وفي العمق هو ليس مسألةَ مَساسٍ بالقَداسةِ الدينية..

ـ الدينُ يبقى في عُلُوه..

والمشكلُ الذي يتوجَّبُ على الدولة أن تتَدخلَ لحلّه، يكمنُ في كون عصرنا الحالي يختلف عن كل العصور السابقة في بلادنا.. ففي الماضي كانت المرأةُ في البيت.. على العموم هي ربةُ بيت، تعتني بزوجها وأطفالِها..

واليوم هي مسؤولةٌ عن حياةِ الملايينِ من الرجال..

وهذا مَكمَنُ «الفَرَس»:

إن في بلدنا حوالي 30 بالمائة من السكان، وربما أكثر، هم نساءٌ يقُمْنَ بإعالَةِ الذكور: أزواجًا وأطفالاً وشبابًا.. كلهم ذكور..

ـ واحسبُوها بالأرقام..

ملايينُ من الرجال يَعيشون بعرَقِ جبينِ المرأة..

وحالاتٌ اجتماعيةٌ كثيرة، ومؤلمة، تتعرَّضُ لها النسوة بسببِ العمل من أجل القُوتِ اليومي، والتطبيب، والتدريس، للأم والأبِ والزوجِ والأخِ والابنِ وغيرِ هؤلاء من ذُكورِ الأسرة...

ملايينُ من ذكور الأسرة لا مَدخولَ لهم، ولا مأكلَ ولا ولا ولا، بدونِ امرأةٍ هي أختٌ أو زوجة..

فماذا تفعلُ أختٌ ما زالَ أخوها عاطلا، أو مُعطّلا؟

وماذا تفعلُ والدةٌ ما زالَ زوجُها أو ابنُها عاطلا، آو مُعطّلا؟

ومرةً أخرى، احسبُوها بالأرقام:

كم عددُ الرجال عندنا عاطلون، أو مُعطّلون؟

وكم تستحقُّ سيدةٌ من الإرثِ الأسري، وهي تشتغل حتى في أبسطِ الأعمال من أجل رجال البيت؟

ولنا في مجتمعنا حالاتٌ يندَى لها الجبين..

وهذه واحدة منهُنَّ، وهي واقعةٌ حقيقية: فاطمة استولى أخوها على حقها في الإرث..

في البداية، أخذَ حصَّتَه، وهي ضعفُ نصيبِ أخته.. وبحصتهِ صارَ يلهو ويعبثُ بالطول والعرض..

ثم ابتلعَ حصةَ فاطمة، وصارَ يُرغمُها على تزويده بالمال..

استولى على حقوق فاطمة، ثم على حقوقِ الوالدة..

وتزوجت فاطمة، وأنجبت أطفالا، ثم ماتَ زوجُها..

ولم يبقَ لها من خيار إلا اللجوء لمعملِ «الگامْبا» في طنجة..

وصارَ أخوها المدمِنُ يَعترِضُ طريقَها، ويستولي على مَدخولِها البسيط، ويمنعُها من إعالةِ نفسِها ووالدتِها وأطفالِها..

وما زال أخوها هذا مُدمنًا..

ماتت والدتُها.. وتحت مسؤوليتِها أبناؤها..

وفاطمةُ اليوم عاجزة..

بين مطرقةِ أخيها المدمن، ومسؤوليةِ أطفالِها الضائعين..

ـ كم تستحقُّ فاطمة من إرثِ والدِها؟!

السؤال إلى الدولة، بكلّ مكوّناتها.. وإلى فُقهائنا.. ومسؤولينا.. وحقوقيينا...

وأسئلةٌ أخرى: لماذا تتملصُ مؤسساتُ الدولة من حل مشكل الإرثِ الوطني؟ أين حقُّ المجتمعِ الفقير في ثرواتِ البلد؟ وإلى أين أنتم بنا ذاهبون؟

أما الجنوحُ إلى الملعبِ الاجتماعي، فهذا غيرُ صالحٍ للّعب..

الملعبُ الاجتماعي لا يؤدي إلا إلى مشاكل عويصة..

مشاكل إذا لم تَحلُّوها قانونيا، ووفق القانون الدولي، فإنكم تُعقّدُونها أكثر أكثر، وتدفعون ببلادِنا إلى ما تعلمون، أو قد لا تعلمون..

فَتحمّلُوا المسؤولية كاملة!

وواضحٌ أن الحراك الاجتماعي قد لا يتوقف، ما دام بيننا مسؤولون مُهترئون يجنحون إلى التهديد بالدين.. والدينُ بريء، لأنه عدالة، وسلام، وليس تأويلاتٍ في تأويلات.. وقد وردَ في القرآن: «لا يعلمُ تأويلَه إلا الله»..

المهمّ هو أن تحلُّوا مُشكلَ الإرث، بشقّيْه: الأُسَري والوطني..

حُلُّوا المشكلَ من أساسِه، قبلَ أن ينهارَ السَّقْف!

 

أحمد إفزارن


 

ifzahmed66@gmail.com