هب أن لك سيارة مصنفة أصيب محركها في مقتل شل حركتها بالمرة بسبب سيرها في طريق غير معبدة أو بسبب حفر في طريق مسفلتة، أو بسبب تهور سائق في حالة سكر طافح يسير في الاتجاه المعاكس نتج عنه اصطدام مروع، فكان لك من الإمكانات لتحملها إلى مقر شركة تصنيعها ضمانا لجودة إصلاحها؛ فهل إعادتها من جديد سالمة من الأعطاب تلقيح لها مدى الحياة، كي لا تصاب مرة أخرى بما أصيبت به سابقا، أم الأمر في صميمه يتعلق بإصلاح الطريق، وبوعي بقية السائقين، وبحالة السيارات والحافلات الميكانيكية، وبالتزامك أنت نفسك باحترام قانون السير، وبقيام رجال الدرك والأمن بمهامهم أحسن قيام وحرصهم الشديد على تطبيق القانون؟.

"الإصلاح كل لا يتجزأ". لو كانت المنظومة التربوية التعليمية في كبسولة محكمة الإغلاق، لا علاقة تربطها ببقية القطاعات، ولا علاقة لها بمحيطها، لأمكننا القول بإمكانية إصلاحها بيسر وسهولة؛ لكن الأمر أعقد من ذلك بكثير، "فهل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟". هذا مع الاستحضار المستمر لطبيعة الإصلاح المنجز أو المأمول..هل هو مظهرا أم مخبرا؟ جوهرا أم شكلا؟ كما أم كيفا؟.

الأبحاث اليوم في مرض داء السكري كلها تتم في الجينات لمعالجته من أساسه ومحاولة استئصاله من جذوره والاستغناء عن الأنسولين باعتباره علاجا خارجيا يستمر مدى الحياة.

فإلى أي مدى يمكن إصلاح التعليم بمرهمات يطلى بها الجرح، أو يدلك بها الجلد، أو تكحل بها العين؟.

أعتقد جازما أن دار لقمان لمنظومتنا التربوية ستبقى على حالها ولن تبرح مكانها وإن أتينا بآخر صيحات البرامج التعليمية في العالم، ولن يتغير حالها وإن استقدمنا خبراء التربية أنفسهم، ما دام كل قطاع مجتمعي يبكي على ليلاه. فمن نافلة القول إن فعل التربية

تتداخل فيه مجموعة من العوامل، اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، لا سبيل للتفصيل فيها مجتمعة؛ لكن ما نؤكد عليه في سياقنا هذا هو الفئة المستهدفة، وبالتحديد رواد المدرسة العمومية باعتبارها الحاضن للملايين من التلاميذ. أما الخصوصي فيعتاش على الوضع المزري الذي بلغته المدرسة العمومية، التي لم تعد ملاذا سوى لمن لم يجد عنها بديلا.

تجمع التقارير الوطنية والدولية على تدني مستوى تلاميذنا التعليمي وافتقادهم لمختلف القدرات، والمهارات، في المواد الأساس: القراءة والكتابة والرياضيات، إذ تتحدث بعضها عن أن 1% من تلاميذ المستوى السادس ابتدائي يستطيعون قراءة اللغة الفرنسية، و6% للغة العربية. فمن يتحمل مسؤولية هذه النسبة الكارثية بكل المقاييس؟ هل يمكن تحميلها لجهة بعينها، أم المسؤولية مركبة تقع على عاتق أكثر من متدخل؟ ترى هل بتغييرنا للمناهج التعليمية سنغير مستوى تلاميذنا التعليمي والتربوي؟ أم هل بصباغة الجدران سنخلق زلزالا تعليميا في البلاد؟ أم الحركة كلها لن تكون أكثر من زوبعة في فنجان؟ وهل بالقبضة الحديدية، بإمطار المدارس بوابل من المذكرات التهديدية

للأساتذة والمديرين والمفتشين، ستحقق منظومتنا التربوية شيئا مذكورا؟ علما أن الفعل التربوي التعليمي هو فعل إنساني بامتياز، مرسلا ورسالة ومرسلا إليه؛ فبنسبة عالية لا تتم العملية التعليمية سوى بقناعة ذاتية من لدن الممارسين وجها لوجه مع الفئة المستهدفة، وبوعي تام من قبلهم، وبتشبع كامل بثقافة أداء الواجب أولا ثم المطالبة بالحقوق ثانيا.

طبعا لا يعني هذا إعفاء هذه الفئة من المسؤولية، لكن من الحيف تحميلها لوحدها وزر تردي الوضع التعليمي ببلادنا فـ"شوية من الحنة وشوية من رطوبة اليدين".

ترى هل يمكن تحقيق الإصلاح بترميمات تتعلق بالمناهج والبرامج والمقررات وبطرق المراقبة، وبالبنيات التحتية للمؤسسات، على أهمية هذه الأركان ودورها الأساس في فعل الإصلاح، أم المسألة أبعد من ذلك وأعقد؟ وإلى أي حد يمكن أن يسعفنا المنطق إذا انصب اهتمامنا فقط على هذه العناصر دون استحضار حاضن التلميذ ومسؤوليته في هزال مستواه التعليمي، وكذا محيطه الذي يعيش في خضمه، والذي يقضي به أكثر بكثير مما يقضيه بالمدرسة، وفي حضرة إعلامه السمعي البصري الذي يمضي جل وقته تحت رحمته لا يفرق، بحكم سنه، بين سمينه القليل وغثه الكثير؟.

فعن أي إصلاح يمكن الحديث في صفوف تلاميذ منحدرين من بيئات مصنفة رسميا ضمن مناطق الفقر المدقع؟ فقر بنوعيه النقدي ومتعدد الأبعاد.. حوالي نصف مليون في خانة فقراء الفقراء، أي الحرمان التام من السكن والتعليم والصحة والولوج للخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وشبكة طرق وصرف صحي. لن نتحدث عن هؤلاء بما أنهم المزود الرئيسي للنسبة غير الملتحقة بكراسي الدراسة. والحكومات المتعاقبة بدل البحث عن حل لمعضلة هؤلاء الأطفال المحرومين من التعليم، وتمكنهم من حقهم الطبيعي الذي تكفله لهم كافة القوانين الدولية والشرائع السماوية، نجدها بدل ذلك تكرس وضعهم المزري.

آخر مبادرة كانت بإصدار مرسوم يهم تشغيل العمال المنزليين دون سن 18، ينص على أنه وفق مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات لا يمكن اعتبار الأشخاص بين 16 و18 عمالا وعاملات منزليين إلا أن يكونوا حاصلين من أولياء أمورهم على إذن مكتوب مصادق على صحة إمضائه. هكذا بجرة قلم، بدل مقعد بالمدرسة وإلزام ذويه بتعليمه، تتم عملية تثبيته في مكانه بدون تحصيل ولو حد أدنى من التعليم.

لن نتحدث عن هؤلاء، لكن لنتحدث عن فقراء بالملايين متمركزين بالوسط القروي بنسبة تصل إلى 4،85 % حسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط. معطى واحد نقف عنده، يتعلق بدور التغذية المتوازنة في نمو الطفل العضلي والعقلي. فأنى لطفل يعيش في وسط مصنف تحت عتبة الفقر بالكاد يجد ما يسد به رمقه، ويستر به عورته، أن يدرس، ويستوعب ما يدرس، ويترقى في تعليمه بأريحية، مثله مثل بقية الأطفال ممن يولدون وفي أفواههم ملاعق من ذهب أو على الأقل من فضة أو من نحاس؟ أما حكاية الإطعام المدرسي فخبرها عند القائمين عليه محليا، كما وكيفا. فأنى للمنحدرين من الأوساط الشعبية الذين لازال التخلف يطبق عليهم من كل جانب أن يتحسن مستواهم ويتحقق الإصلاح المبشر به في الإستراتيجية 2015- 2030 ما لم يكن الإصلاح شاملا؟.

فالأمية رغم الجهود المبذولة، لازالت مرتفعة، لاسيما بين النساء بنسبة تقارب 80 في المائة. فأي إصلاح كيفما كان نوعه ينفع مع تلاميذ هذه بيئاتهم وهذه حال أمهاتهم؟ وأنى لهؤلاء الآباء والأمهات الذين يفتقدون للحد الأدنى من التعليم أن يساهموا في تأسيس جمعيات أولياء أمور التلاميذ، ومن ثم المشاركة في تفعيل مجالس المؤسسات كمجلس التدبير مثلا؟ وأنى لهم متابعة تحصيل أبنائهم الدراسي، ومراقبة أدائهم، ومعرفة مستواهم من منطلق مفاده أن المدرسة لوحدها بدون أسرة يستحيل عليها الإقلاع بأي إصلاح؟.

تقرير أفرجت عنه مؤخرا المندوبية السامية للتخطيط، بمناسبة اليوم الوطني للمرأة، يتحدث عن واحد من كل أسرة مغربية تترأسها امرأة (من بين 3،7 ملايين أسرة مغربية.. توجد 18،1 مليون أسرة)، أكثر من نصفهن مطلقات أو أرامل، و أغلبهن لا تعرفن القراءة ولا الكتابة، وتعانين اندماجا ضعيفا في سوق الشغل. هذا فضلا عما رصده التقرير الأممي الإنمائي حول وضعية النساء في المغرب، بعد أن انتقد بشدة استمرار تفشي ظاهرة زواج القاصرات، إذ اعتبر أنها تصل إلى 16% داخل المجتمع المغربي، مقارنة مع بلدان الجوار تونس والجزائر، التي لا تتعدى فيها نسبة زواج القاصرات معدل 3 %.

وكشف التقرير أن الظاهرة قد انخفضت بشكل كبير في بعض بلدان جنوب الصحراء، مثل دجيبوتي (5%) ورواندا(8%) وناميبيا (7%). هذا دون الحديث عن الطلاق بمختلف أنواعه، رجعيا كان أو خلعيا أو طلاقا قبل البناء أو طلاقا اتفاقيا أو طلاقا بالثلاث، إذ توضح الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل بخصوص قضاء الأسرة أن منحنى الطلاق في المغرب في ارتفاع مستمر خلال السنوات الأخيرة، بما يترتب عنه من تفكك أسري وتشرد وفقر وهدر مدرسي، يكون الأطفال ضحاياه الأول. وما نلاحظه اليوم من عنف ومخدرات وتدخين بشكل مهول في صفوف الأحداث وتحرش، وغيرها من الظواهر المشينة التي غزت مؤسساتنا التربوية، ليس سوى نتيجة منطقية لأوضاعهم الاجتماعية المضطربة؛ فأي إصلاح ينفع مع هؤلاء يحسن من مستواهم الدراسي؟.

يمكن التسليم لأي إصلاح بنجاعته فقط إذا تم دفن الرؤوس في الرمال والقول إن هؤلاء الأطفال المنحدرين من هذه الأوساط لا يأتون إلى مدارسهم إلا بعد أن يتخلصوا كلية من أعطاب واقعهم المرير، مرتع جميع أنواع الموبقات والمشكلات. هذا إذا سلمنا أن مدارسنا قطعت مع الفقر على مستوى بنياتها التحتية، ووفرت لتلاميذها الفضاءات اللازمة لمواكبة مستجدات العصر، من مختبرات علمية ومراسم وملاعب وغيرها مما يجذب الطفل إليها ويحببه فيها.

أما والإصلاح اليوم لازال يراوح مكانه ولا يتجاوز العتبات المتعلقة بنسبة التسجيل بالمستوى الأول، والتعليم الأولي الذي إلى اليوم لازال حبرا على ورق، ونسبة الهدر بالآلاف، والكهربة والماء والمراحيض، والمدارس الجماعاتية وما يعترضها من مشاكل تتعلق برفض الآباء استقرار أبنائهم بها ليلا ونهارا، ولخبطة لغة التدريس..مد وجزر بين تعميم اللغة العربية إلى الباكالوريا ثم الشروع في التراجع عنها ابتداء من هذا الموسم (2017- 2018)، إحداث مدارس التميز ثم التخلي عنها بمجرد تغيير الوزير، إحداث باكلوريا دولية وسط زوبعة من الانتقادات حول صفتها الدولية أم هي

فرنسية خالصة.. إقرار الفرنسية ابتداء من السنة الثانية ابتدائي، ثم مراجعتها خلال هذا الموسم لإدراج تدريسها في السنة الأولى ابتدائي بمعدل حصة كل يوم (20 دقيقة لكل حصة)، ما أوقع الأساتذة في حيص بيص، هل يركزون جهودهم حول تعليمهم الحروف العربية، أم الحروف الفرنسية... وضع تعليمي غير مستقر على حال بعد عقود منذ الاستقلال؛ فأنى لمدرسة هذه حالها أن تحسن من مستوى تلامذتها وتحقق الإصلاح المنشود؟ وأنى لهؤلاء الأطفال الذين يأتون إلى الفصول الدراسية وعلى كواهلهم أحمال مشاكل أسرهم الاجتماعية المعقدة أن ينصلح حالهم التعليمي؟ فالإصلاح إما أن يكون شاملا أو لا يكون، فبقدر إصلاح المنظومة التعليمية وتجهيز المدارس لا بد من إصلاح الأحوال الاجتماعية والاقتصادية؛ فالإصلاح، كما سبق القول، كل لا يتجزأ.


 

بوسلهام عميمر