لا أتذكر من القائل إن الأسرة هي أجمل اختراع في الوجود. لا شك في أنها كذلك، نظرا لما تحققه من استقرار والتحام بين أفراد الأسرة الواحدة، كما أن لذة النجاح في هذه الحياة لا يمكن أن يتحقق خارج هذه المؤسسة "المقدسة".

حكى صديق لي عن قصة انفصال بين طبيب وطبيبة بمدينة الدار البيضاء بعد ثلاثين سنة من العشرة والزواج، وبعد ما كبر الأولاد الأربعة، دخلا الزوجان في استثمارات كبيرة والتي كانت السبب المباشر في انفجار العلاقة بينهما، ودفعت بهما إلى الطلاق دون استحضار السنوات الطوال التي كانت تجمعهم.

والسؤال هو: لماذا يتم تغييب مؤسسة الأسرة في كل خلاف ينشب أو يظهر إلى السطح فجأة بين الزوجين؟ وما هو تأثير هذا الانفجار على صحة وتوازن المجتمع؟

بالعودة إلى المثال المذكور أعلاه وأمثلة كثيرة تفيض بها محاكم المملكة، نجد أن الضحية الأولى في كل خلاف ينشب بين الزوجين هي مؤسسة الأسرة؛ لأن مكانتهما داخل بيت الزوجية مكانة قوية، فهما الأكسجين الحقيقي في البيت، وأي هزة تمسه يكون لها انعكاس مباشر على الأولاد وضمان استقرارهما.

وفي حالة الطبيبين، فقد انقسم الأولاد إلى شطرين، البنات مع الأب والولدان مع الأم، وبذلك انشطرت الأسرة إلى فريقين ونظرا لما كان يجمعهما من علاقة مادية أكثر من عاطفية، فقد بدأت المنافسة تشتد بينهما على العامل المادي أكثر من العاطفي، وتبين بالملموس أن من يدفع أكثر يستحوذ على الأولاد ويجعلهم في صفه.

بنواحي مدينة قلعة السراغنة، زوج يتعاطى الكحول كثيرا، دخل في علاقة غير شرعية مع امرأة مطلقة، طلبت منه للاستمرار معها أن ينفصل عن زوجته، وبالفعل حقق لها رغبتها وانتقل معها إلى مكان مجهول تاركا أربعة أولاد أكبرهم لا يتعدى عمره سبع سنوات، دون معيل، لا يملكون سوى الدموع والحسرة عن أب تم التغرير به في واضحة النهار وأم لم تعرف في حياتها سوى المطبخ طول النهار والسرير عندما ينزل الظلام.

في هذا المثل والذي نجده حاضرا بقوة بالعديد من مدن وقرى المملكة، وفي غفلة من الجميع، نعثر على كوابيس حقيقية، نقف على ما تتعرض له الأم وأطفالها من عقاب أليم، جراء معاناة لا يمكن أن تنقلها الكلمات ولا حتى الصور. إن الأسرة في هذا المثل القبيح جدا مجرد اسم، لأن الأم التي لا تقرأ ولا تكتب ولا تشتغل ومقطوعة من شجرة، وقبلت عن مضض أن تكون زوجة رقم تسعة في حياته، وتقطن بقرية نائية تنعدم فيها كل ما يرتبط بالحياة، ويُفْرَضُ عليها قضاء وقدرا بأن تتولى قيادة هذه الأسرة، دون أجنحة، فهذا أكبر عقاب يشق ظهرها قبل أن يشق ظهر أسرتها الصغيرة.

من خلال المثالين السابقين، بالرغم من اختلافهما وتباعدهما، فإننا نلاحظ أن مؤسسة الأسرة هي التي تتعرض للقصف والنسف، وأن الأولاد في الحالة الأولى بالرغم من بلوغهم السن الكافي لتحمل أعباء الحياة، ووضعهم المادي المريح لكن صورتهم ستمس داخل المجتمع، وسيتعرضون للتشفي من لدن الأصدقاء والمقربين والخصوم وسيفقدون الثقة في كل شيء، وسينزل منسوب عطائهم وإنتاجهم، وقد يفقدون الثقة في أنفسهم، وقد يقبل أحدهم على الانتحار انتقاما من الوالدين، وقد حدث هذا الأمر كثيرا بين عائلات كانت معروفة في الوسط الراقي.

بالنسبة إلى المثال الثاني، فهو لا محالة يحيلنا إلى رواية "الإخوان كارامازوف" للكاتب الروسي دوستوفسكي، والتي صور فيها الأب السكير والفاسد والمعروف بجشعه وتعدده للنساء، وقسوة قلبه وهجره لأبنائه وهم صغار، الفرق بين الاثنين هو أن الأب في الرواية عرفنا نهايته الدرامية، أما نهاية الأب في هذه المنطقة فلم تنكشف خيوطها بعد. وهنا وجب أن نتساءل جميعا كيف سيكبر هؤلاء الأولاد الأربعة وكل علامات الفقر والبؤس والإهمال تحيط بهم؟

في هذا المثل، هو الآخر مؤسسة الأسرة ليست وحدها الخاسر بل المجتمع هو من سيؤدي الفاتورة غالية جدا، عندما يترعرع الأطفال في جو الحرمان من كل شيء، حرمان من وجود الأب، حرمان من مواصلة التمدرس، وحرمان من حق الحياة التي يتمتع بها أقرانهم، وهو ما سيولد لديهم الكره والحقد ضد الجميع، بما فيه الدولة والمجتمع، وكل ما سيحصل عليه هذا الأخير هو قبيلة من الأشرار، من الخلايا النائمة، من الأعداء ومصاصي الدماء.

إن الدولة بكل مؤسساتها الاجتماعية والمجتمع بكل أطيافه مطالبون بالتوقف والإنصات بإمعان إلى دقات ونبض الأسر المغربية التي تعاني في صمت مريب، فهي تحتاج إلى طبيب حقيقي يستمع إلى مشاكلها، ويقوم بتشخيصها ومعالجتها في أسرع وقت ممكن، وهذا الطبيب هو الإعلام بأنواعه، وخطيب الجمعة المثقف المعتدل، والكاتب الملتزم بقضايا الناس، والسياسي النبيل، وجمعيات المجتمع المدني التطوعية، وإحسان الجار، ودفء الأصدقاء الذين بدؤوا في الانقراض. كل هؤلاء يمكنهم بإحساسهم، بتدخلهم النبيل أن يوقفوا مشاريع درامية لبائعات الهوى اللواتي سيجدن الشارع المتعفن يفتح لهن كل الأبواب والنوافذ.

أما بالنسبة إلى الأزواج، فهم وحدهم يستطيعون أن يوقفوا هذا النزيف، ونكران الذات وحده سيقف حاجزا منيعا إزاء تفكيك مؤسسة الزواج المقدسة، وخارج هذه الوصفة سنسهم جميعا في إفلاس تام لقيمنا الأصيلة وفي انهيار المجتمع.

 

عبد الكريم ساورة*


 

*كاتب وباحث