أرجعت عدم رغبتي في الاستحمام الى حقبة الاعتقالات منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي ، حيث كان الحرمان من الاستحمام الذي يستمر أحيانا عدة أسابيع جزءا من التحقيق والتعذيب ، كنت تجد نفسك في حالة مريعة ورائحة كريهة ، هي رائحتك أنت ، خاصة أنك بعد قضاء حاجتك لا تجد أي وسيلة للتنظيف ، وفي بعض الحالات التي تكون مشبوحا فيها مربوطا ، وتطلب التبويل ، يقول لك المحقق : بوّل ، هل هناك من يمنعك ؟ فتبول على نفسك .

أجمع كثيرون من علماء النفس أن الانسان يستطيع أن يحلل نفسه ، إذا ما وجد شجاعة سبر غوره ومواجهة هذه النفس في طفولتها حول أكثر القضايا إيلاما وتعقيدًا ومحاولات الهروب المتعددة من مواجهتها ، وهذا بالضبط ما يفعله أطباء النفس الذين يذهب اليهم المرضى النفسيين في العوالم المتحضرة أو المتمدنة .

ولكن للحذر هنا متطلبان ، يتمثل الأول في تخريج تبرير لمواجهة العقدة ، كأن أفول في عقدتي ، أنني استبدل الاستحمام بالدش أو الشوار ، استحمام سريع لا يتطلب الليفة والصابون ، والثاني في عدم بحثك أبعد مما سولت لك نفسك وخرّج لك عقلك الباطني من ان العقدة تبدأ من هنا لا من هناك ، و"هناك" بالنسبة لي تمتد الى اواخر خمسينات القرن لا سبعينياته ، عندما كانت أمي تضعنا ثلاثة في طشت واحد ، كنا نسميه "اللجن" مصنوع من مادة الحديد ، حيث لم يكن البلاستيك قد شاع بعد ، كي توفر بعض الماء وبعض الوقت وبعض الدفء حين يكون الطقس شتاء في خيمة لا يمكن ولا بأي حال تدفئتها ، فإذا كانت المياه ساخنة أكثر من اللازم يصعب تبردتها ، والعكس صحيح ايضا ، فماذا عندما تكون اصغر الثلاثة في مثل ذاك المشهد الذي ظل يطاردني حتى اليوم .

في مثل هذه الأيام يحل علينا فصل الربيع ، الأجمل من بين كل فصول السنة ، لكنه منذ سبع سنوات ، أصبح له مسمعا آخر ، خاصة حين نضيف اليه كلمة "عربي" ، ليثير في نفوسنا ألما وحنقا وغضبا وحسرة ، من انه مزقنا اكثر مما كنا ممزقين ، وانه تقريبا أجهز على كل أمنياتنا وتطلعاتنا بالحرية والاستقلال والنماء ، وأصبحت الديمقراطية ترفا كماليا لا يجب ان نتطلع اليه ، كل ما نريده أن يتوقف هذا الاحتراب وهذا النزيف ، بل ان البعض منا أصبح جل ما يبتغيه أن تعود الأمور الى ما كانت عليه قبل هذا الربيع العربي ، حيث تسمع تونسيين يمتدحوا زين العابدين وليبيين معمر القذافي ومصريين حسني مبارك ... الخ .

لا يمنع كل هذا أن يظل الربيع جميلا ، ولا يمنع جماهير هذه الأمة وطلائعها من مواجهة عقدتها والتطلع الى ربيع عربي حقيقي .

حمدي فراج

حمدي ف

حمدي فراج