إن المتتبع للسياسات الاقتصادية للحكومات المغربية المتعاقبة، خاصة منذ تجربة التناوب التوافقي التي عرفها المغرب سنة 1998، يظهر له بجلاء ارتفاع الوعي الحكومي بمسألة التنمية الاجتماعية للشعب بموازاة مع التنمية الاقتصادية المنشودة لهذا البلد للحاق بركب الدول المتقدمة، مما جعل هذه السياسات ترفع شعار المشاريع والأوراش الاقتصادية الكبرى؛ وذلك في توافق مع رأس الهرم السياسي والتنفيذي الذي ما فتئ يؤسس لهذه المقاربة منذ وصوله إلى سدة الحكم.

غير أن أحداث الحراك المغربي لسنة 2011 أظهرت بالملموس فشل هذه السياسات ومدى العقم الذي أصابها لعدم تأثيرها الإيجابي المباشر على الحياة والواقع المعيش للمواطنين، ليشكل الدستور مرة أخرى مدخلا أساسيا للإصلاح، وفاء للسياسة التي دأب النظام السياسي على نهجها منذ الاستقلال، حيث جاء الخطاب الملكي لـ 9 مارس 2011 ليؤسس لمراجعة دستورية جديدة قعدت للمشاركة المواطنة في صنع القرار كإحدى الركائز الأساسية للبنيان الدستوري؛ وذلك بغرض المساهمة في وضع سياسات عمومية تهم التشغيل أساسا للتقليص من البطالة، لاسيما في صفوف الشباب، وتقليص الهوة الاجتماعية بين مختلف الطبقات، بما من شأنه تحقيق العدالة المجالية لمختلف التراب المغربي.

فقد جاءت مضامين عدد من الفصول مؤسسة لصيغ منظمة ومؤطرة وجاهزة، تشمل الملتمسات والمرافعات والعرائض وآليات وهيئات التشاور حول إعداد برامج عمل الجماعات الترابية، مما من شأنه المساهمة في بلورة التمثل والوعي بمسألة عمومية صناعة القرار المحلي والترابي تجسيدا لمبدأ المشاركة المواطنة، وبالتالي كسب رهان التنمية المجالية لما يتوافق مع حاجيات الساكنة، في إطار مؤسساتي رسمي شكل المرجع الأساس لمهندسي الدستور الجديد لسنة 2011.

لكن وبالقيام بقراءة تبسيطية للأحداث التي شهدتها بعض مناطق المغرب منذ اندلاع أحداث الحسيمة السنة الماضية، مرورا بالأحداث التي شهدتها مدينة جرادة بحر الأسبوع المنصرم (يوم 14 مارس 2018)، يظهر مدى ارتجالية واعتباطية النموذج التنموي الذي أسس له الدستور الجديد من خلال المشاركة المواطنة، ليتحول ويتغير مجال تعبير المواطنين نحو الشارع، حيث أصبح هذا الأخير الحقل الأساسي للاحتجاج والتعبير عن الحقوق والمصالح.

فقد طور المغاربة ذكاء ووعيا منقطع النظير بمسألة التنمية الاجتماعية والمجالية لترابهم، من خلال نهج أساليب مختلفة للاحتجاج، كالاعتصام والمشي على الأقدام، للتعبير عن التضامن والهم المجالي المشترك لهؤلاء، هذا المجال الذي ربى ورسخ فيهم الشعور بالظلم وبكونهم مواطنين من الدرجات السفلى، وما يزكي هذا الشعور هو المؤسسات الرسمية نفسها من خلال الأرقام والاحصاءات التي تصدرها المندوبية السامية للتخطيط، والتي تؤكد في مجملها غياب العدل والانصاف المجالي، وتوسع هامش الفقر بين مختلف الجهات بسبب غياب التوزيع العادل للثروات بينها.

إن الوضع الاجتماعي الذي يعرفه المغرب اليوم، وخاصة بالمناطق القروية، يتسم بالعجز والشلل نتيجة عقم النموذج التنموي غير العادل وغياب فاعليته ومردوده المباشر على الساكنة، مما يغذي الشعور بالاحباط المجالي، ويجعله مبررا مستمرا ودائما في تأجيج الاحتجاجات، في ظل عودة مقولة المغرب النافع/ والمغرب غير النافع إلى الأذهان، يجسدها ازدهار وتنمية الساحل في مقابل تأخر وتهميش الداخل؛ ما جعل من الشارع المغربي اليوم فضاء لتصريف الديمقراطية التشاركية عبر فعل احتجاجي سمته الأساس التضامن المواطناتي وفقدان الثقة بين الشباب والدولة ومؤسساتها الرسمية. وبالتالي، الحديث عن مشاركة مواطنة مغيبة من طرف الدولة، يغيب فيها الفاعل المؤسساتي الرسمي وتتسع فيها الهوة بين المواطنين وبين الهيئات والسلطات العمومية التي صارت مجرد بنيات مغلقة، لتؤسس لمولود جديد من رحم الشارع اسمه الاحتجاج المواطناتي.

أمام هذا التحول المعبر في صلبه عن انتكاسة الدستور الجديد وضرب ركيزته الأساسية في إدماج الشباب، لجأت الدولة إلى مقاربتها الأمنية الوفية للعقل الدولتي المركزي الفرنسي في مقاربة التراب والمجال، ليتحول بذلك الشارع الاحتجاجي إلى حلبة لللصراع، تتحرك فيه عناصر القوات العمومية بوسائلها المدججة وآلياتها المتحركة، كأنها في ذلك تواجه خصما أو عدوا يتواجد في الضفة الأخرى، وهذا ماتظهره جليا صور وفيديوهات يوم الأربعاء الأسود بجرادة، حيث عمليات الدهس بسيارات الأمن، وعمليات الكر والفر لاعتقال كل كائن متحرك في الغابة المجاورة لفيلاج يوسف مسرح الاحتجاجات، لتواجه هذه القوات إصرار وعزيمة المحتجين الذين بادروا محاولين رمي أنفسهم داخل حفر الآبار المنجمية التي تعرفها المنطقة، مسلحين بردة فعل نضالية تلبس جبة الظلم والمظلومية، مولدة لديهم الإيمان بقضيتهم العادلة، قضية كاد يتحول فيها الموت إلى لحظة درامية تعكس تراجيدية الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعيش بالمنطقة.

لكن ما يزيد من تعقيد الوضع واستفحاله هو التعطيل الممنهج للوساطة المدنية والسياسية، الأمر الذي يؤكده اتصال جهات نافذة في وزارة الداخلية ودعوتها الأمين العام لحزب سياسي مغربي إلى إلغاء الزيارة المقرر القيام بها إلى منطقة الاحتجاجات من طرف بعض أعضاء مكتبه السياسي، وهو ما يعيد إلى الأذهان ايحاءات "السلطة الأبوية"، التي لا تقبل الوساطة بين الأب وبين الشعب، مما يساهم في تعميق أزمة الأحزاب، وبالتالي المساهمة بقوة في النفور والعزوف السياسي.

فالثابت اليوم أننا أمام حقل احتجاجي يكاد يكون منظما، حقل يسعى إلى التأطير المواطناتي للمحتجين، خاصة فئة الشباب، من أجل خلق تنشئة اجتماعية واعية بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية. غير أن ذلك يظل في الوقت نفسه محفوفا بكثير من المخاطر، كونه يعد فضاء مفتوحا على كل التحالفات وجميع الاحتمالات، ليتم تكييفه بحسب الغايات والأغراض الإعلامية، بل قد يصبح مرتعا لخدمة الأجندة الخارجية المعادية للوطن، خصوصا وأن هذا الفضاء اليوم ترتاده جميع الفئات العمرية من أطفال وتلاميذ وطلبة وفتيات ونساء، فضاء يغذيه فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية واستمرار الاعتقالات والعنف والمنع، مما أدى إلى تكون ثقافة راديكالية مضادة ترفض الحلول المؤسساتية الوسيطة، وتفرض حلولا مطلبية آنية، قد تعجز الحكومة بل وحتى النظام السياسي عن توفيرها الآني، ليتحول الاحتجاج إلى عصيان مدني قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار والسلم الاجتماعي، لنسقط في الهدم بدل الإصلاح.

إن البديل الاقتصادي للوضع الحالي لا يجب أن يقتصر على مجرد استعجال حلول آنية غير معقلنة في شكل وصفات جاهزة، بل يتجلى أساسا في التأني لوضع بدائل تندمج فيها كل الحاجيات المحلية والترابية للساكنة، بدائل تترجم بالتأثير وبشكل مباشر على الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء، من تشغيل وصحة وتعليم وخدمات ومواصلات، ومرافق اقتصادية عمومية وخاصة من شأنها تشجيع وتقوية الاستثمار ومحاربة البطالة، وبالتالي محاربة التفاوتات المجالية بين جميع مناطق المغرب، بدائل تستدمج رؤية سياسية ثاقبة وملمة بالوضع الراهن، تقطع مع ارتجالية المشاريع التنموية السابقة وتؤسس لنموذج تنموي جديد يتمحور حول الشباب أساسا، أعطى انطلاقته ملك البلاد خلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية في أكتوبر 2017، نموذج يستوجب التعبئة حوله من كل أطياف وألوان المجتمع، قوامه الأساس ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس قيم الانتماء لهذا الوطن والعيش المشترك، من خلال تلبية حقوق أبنائه الاقتصادية والاجتماعية، مما من شأنه إعادة الاعتبار والكرامة للمواطن، لاسيما فئة الشباب، وفي الوقت ذاته يعيد الاعتبار لأفق الدولة وبنياتها، وبالتالي احترام سمو الدستور الجديد لسنة 2011 على كافة المجتمع.

 

زلفي عبد السلام*


 

*باحث في القانون العام وعلم السياسة.