صناعة الأذواق الراقية والحقيقية، هذه مهمة المثقفين أهل الفكر والنظر والفن بامتياز. النخبة المفكرة والعالمة هي من تتولى موضوعيا صناعة الأذواق الفنية داخل مجتمع من المجتمعات، هذا هو الوضع الطبيعي والعادي؛ ذلك أن صناعة الذوق الفني مهمة صعبة لأنها تعني صناعة الوجدان، ومخاطبة الباطن ودعوته إلى التعبير عن أشواقه وآماله وآلامه عبر وسائط عدة، تتجلى لحنا، أغنية، كلمة، شعرا، تشخيصا، مشهدا، لوحة، فنا يليق ويحمل من المعاني ما يحمل.

أن يكون لدينا فن يليق بوجودنا، ويترجم كينونتنا، ويشرف زماننا، هذه مهمة لا يقوى على حملها، بقواعدها وعمقها الحقيقي، إلا أهل الفكر والنظر وأهل الفن، المشبعين بعمق ثقافي معتبر. فلا فنا حقيقيا بلا عمق ثقافي حقيقي؛ ذلك أن التعبير الفني، أكان كلمة أو غناء أو تشخيصا، يستدعي بالضرورة ويستلزم وجود نص يتضمن عناصر النص في حدودها العلمية المقبولة، ويستلزم وجود أداء مقنع، لحنا وصوتا في حالة الغناء، كما يستلزم وجود تشخيص، دال ومعبر في حالة التمثيل، مسرحا وسينما، وقبل هذا وذاك وأثناءه وبعده، يستدعي الفن سؤال الغاية والجدوى، إنه السؤال الملزم والملازم لكل نشاط ثقافي بتجلياته المختلفة، يأتي على رأسها التجلي الفني.

إن أخطر ما يمكن أن يصاب به التعبير الفني هو أن يتحول إلى مجال لدغدغة العواطف، والبحث عن الإضحاك، وتزجية الوقت، بلا مضمون حقيقي، ولا أداء مبدع، ولا رسائل تنتزع الإعجاب، استحقاقا واقتناعا، ولا تستجديه أو تتسوله بلا ثمن. ليس الفن الحقيقي إلهاء، ولا إبعادا عن الحقيقة، ولا هروبا من الأسئلة الكبرى، بل هو عين السؤال والتعبير عنه بمنطق الفن وأدواته. غياب هذه الأبعاد، أو تغييبها، يحول الفن إلى مهازل، نطقا ومنطقا، قولا وفعلا.

ضحك وقهقهات بلا سبب ولا استحقاق. تصفيق بلا إقناع ولا نجاعة. مطربون ولا طرب. ممثلون ولا تمثيل. فكاهيون ولا كوميديا. تشخيص ولا نص. عناوين مكرورة ومشاهد متجاوزة بمضامين مبتذلة ومؤسفة، حكايات: المعلم، العروبي، الشلح. وفي مجال الغناء، غلبة التقليد غير المنضبط، والبحث عن الحظوة والبطولة بلا عمق ثقافي ولا صنعة فنية قائمة على المهنية وقوة الفكرة ونجاعتها.

إن أمر الذوق الفني أمر جلل، لا بد للخائض فيه من امتلاك رؤية ثقافية، شاملة، عميقة ووازنة، ولا بد له، ثانيا، من الاطلاع الكافي على تجارب من سبقوه من الفنانين والمبدعين، بدءا بالرواد وانتهاء بالمتأخرين، فالفن وتذوقه، تاريخ وتراكمات، وتجارب وتنويعات، ولا بد للمشتغلين به، وفيه، من امتلاك رؤية واضحة عن إنجازات السابقين.

ويستغرب المرء حقيقة لمن يتحدث عن الأذواق الفنية ويزعم ريادته في باب من أبوابها دون أن يكون على دراية معقولة بتجارب من سبقوه، ففاقد الشيء لا يعطيه، وأحوال الفن وتذوقه في بلادنا تشكو تراجعات، واختلالات، وضروبا من الغموض، من حيث الرؤية والغاية والمراد مما يتم عرضه، وتقديمه، وتشجيعه، والدفع به إلى المقدمة.

مبدئيا وبدهيا، علينا أولا قراءة موروثنا الفني، ومن مختلف الألوان الفنية والتجارب الإبداعية، (في فن الغناء، قصيدة الملحون، الأندلسي، الغرناطي، الشعر الغنائي، الغناء الأمازيغي والحساني بتنويعاتهما المختلفة، قصيدة الروايس، أحواش، العيطة، المجموعات الغنائية، ناس الغيوان، جيل جيلالة، المشاهب، وانتهاء بالتعبيرات المعاصرة. الأمر نفسه ينسحب على التعبيرات الأخرى، وعلى رأسها فن المسرح والسينما بمختلف مدارسهما)، وبعد الاطلاع الكافي والإنصات العميق لكل هذه التجارب، وغيرها، وبعد الإفادة منها جميعا، ننتقل إلى التفكير في مجاوزة كل هذا الثراء، في أفق تقديم فن جديد يكون مؤهلا، حقا وفعلا، لصناعة أذواق جديدة تستحق أن تسمى أذواقا فنية.

يبقى السؤال، هل يفكر المشتغلون بالفن في بلادنا في كل هذا وبهذا المنطق؟ وهل يجدون عونا على ذلك؟ واقع التعبيرات الفنية عندنا كفيل بتقديم الجواب الكافي.


 

ابراهيم أقنسوس