إحدى مشاكلنا المعرفية العويصة، نحن المغاربة خاصة وأبناء شمال إفريقيا عامة، هي أننا لا زلنا نفكّر في قضايا اللغة والهوية والثقافة والتاريخ...، ليس من خلال الأسباب الحقيقية لتفسير حقيقي لحقيقة هذه القضايا، بل من خلال النتائج التي نصنعها بأنفسنا كتعبير عن رغبتنا في ما يجب أن تُفسّر به وتكون عليه هذه القضايا. ثم، بعد ذلك، نصنع كذلك الوقائع والمعطيات التي نعتمد عليها كأسباب تؤدّي إلى تلك النتائج وتفسّرها. ولهذا فكل ما نفعله عندما ندّعي أننا نفسّر هذه القضايا هو أننا نبرّر ـ وشتان بين التبرير والتفسير ـ النتائج الجاهزة، التي صنعناها برغبتنا فيها، والتي تؤدّي إليها تلك الوقائع والمعطيات التي صنعناه بدورها لتكون أسبابا لتلك النتائج. فندور في حلقة مفرغة تكون فيها الأسباب نتائج والنتائج أسبابا.

فمثلا عندما يقول التاريخ، الذي صنعناه، إن أول دولة في تاريخ المغرب هي الدولة العربية التي أنشأها الأدارسة، فإن "الحقيقة" التاريخية ليست نتيجة لما حصل بالفعل في التاريخ، أي ليست نتيجة للوقائع والمعطيات التاريخية الحقيقية التي تفسّر هذه النتيجة، وإنما هي تعبير عن رغبتنا في أن تكون أول دولة عرفها المغرب هي دولة عربية لتبرير انتشار العروبة العرقية في المغرب. ثم نصنع ونختلق المعطيات التاريخية التي تبرّر هذا التاريخ نفسه، ليس لأنه حصل وحدث بالفعل، بل لأننا نريده ونرغب فيه. فليست أحداث التاريخ الواقعية هي التي تفسّر كون أول دولة تأسست في المغرب هي دولة عربية، بل رغبتنا في ذلك هي التي صنعت تلك الأحداث، مع ما تعنيه من رغبة في أن يكون المغرب متحوّلا من جنسه الأمازيغي إلى الجنس العربي، ما دام أن عروبة هذا المغرب هي واقع تاريخي ثابت وقديم منذ أن تأسست أول دولة في المغرب، والتي كانت دولة عربية.

كذلك نتجت عن الرغبة في هذا التحوّل إلى الجنس العربي معاداةُ الأمازيغية، وشيطنة الجنس الأمازيغي بربطه بالعنصرية والانفصال والتنصير. هذه النتيجة، التي تخص ارتباط الجنس الأمازيغي بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، ليست حصيلة للبحث في تاريخ الأمازيغيين وثقافتهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية لنخلص إلى أن العنصرية والانفصال والعداء للإسلام هي خصائص ملازمة للأمازيغية والأمازيغيين، بل هي حصيلة لوقائع وأحداث "تاريخية" لا وجود لها، اختلقناها اختلاقا لنثبت بها هذا الارتباط "الأمازيغي" بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام. هذه الوقائع والأحداث هي ما يشكّل مضمون "الظهير البربري"، الذي صنعته نخبة من الأمازيغيين المتحوّلين المعادين لأمازيغيتهم وجنسهم الأمازيغي، ليستعملوه كسبب يفسّر خاصية العنصرية والانفصال والعداء للإسلام، التي تنسبها هذه النخبة المتحولة إلى الأمازيغ الأسوياء، أي الأمازيغ غير المتحولين. لكن بقدر ما أن هذا الحدث "التاريخي"، الذي يمثّله "الظهير البربري"، هو سبب يُفترض أنه سابق عن النتيجة، التي هي ارتباط الجنس الأمازيغي بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، فهو في نفس الوقت نتيجة لرغبة الأمازيغ المتحولين في أن تكون الأمازيغية أداة للعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، حتى يكون هناك سبب مشروع لرفض الجنس الأمازيغي، لارتباطه بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، وإقبال على تغييره بالجنس العربي.

ونفس الشي في ما يخص اللغة الدارجة. فلأننا نرغب في أن نكون عربا ونتحوّل من جنسنا الأمازيغي إلى الجنس العربي، فلذلك نعتبر الدارجة "دليلا" قاطعا على أننا عرب بحجة أننا نتكلّم لهجة أجدادنا العرب. فما يجعل الدارجة لهجة الأجداد العرب، ليس لأن هؤلاء الأجداد تكلموا هذ اللغة ونقلوها إلينا، وإنما لأننا نرغب في هذه النتيجة لأنها تبرر تحوّلنا الجنسي والهوياتي. فرغبتنا في هذا التحوّل، مع ما يؤدّي إليه من تنكّر لأمازيغيتنا، هي التي تحوّل الدارجة إلى لغة لأجدادنا العرب، وليس لأن أجدادنا الحقيقيين كانوا عربا. فالنتيجة، المعبّرة عن رغبتنا في أن نكون عربا، هي، في النهاية، السبب الذي يفسّر كوننا عربا. فهنا النتيجة هي التي تُنتج السبب وليس العكس، كما في منهج التفسير العلمي للظواهر. وحتى تؤكد الدارجة انتماءنا العربي المنتحَل، فإننا نختار المعطيات والأمثلة التاريخية واللسنية التي تُثبت عروبة الدارجة، وتثبت بالتالي انتماءنا العربي. وهكذا نستشهد مثلا باللهجات العربية لبلدان شبه الجزيرة العربية، لتبيان أن علاقة هذه اللهجات بالانتماء العربي للمتحدثين بها معطى بديهي لا يحتاج إلى برهان ولا إثبات، لنستخلص أن نفس العلاقة البديهية، التي تربط هذه اللهجات بالانتماء العربي للمتحدثين بها، تحكم علاقة الدارجة المغربية بالانتماء العربي للمغاربة الذين يتحدثونها، حيث تقوم هذه الدارجة شهادة حية على عروبة المتحدثين بها، مثلما تشهد لهجات البلدان العربية عن الانتماء العربي لشعوب هذه البلدان.

هذا المقال هو مقدمة لموضوع سيُنشر لاحقا، وبتفاصيل أوفى وأكثر حول علاقة الدارجة بالانتماء الهوياتي للمغاربة.


 

محمد بودهان