لأسباب متعددة ارتبطت كلها بإخفاقات على أكثر من صعيد: سياسية (تعثر الانتقال إلى الديمقراطية)، اقتصادية وتنموية (نموذج تنموي أبان عن محدوديته في النهوض بالواقع المغربي)، مناخية (تقلبات مناخية في اتجاه القحالة وندرة المياه)، ظرفية اقتصادية عالمية (اقتصاد عولمي نيوليبرالي مأزوم يحاول حل أزمته على حساب مصالح دول وشعوب الجنوب)، فساد مستشرٍ في جل المناحي،.. أقول لأسباب متعددة وضعنا الاجتماعي صعب للغاية إن لم نقل متدهور، إنه برميل بارود يجلس فوقه المغرب.

عادي جدا في مثل هكذا وضع أن يحتج ويناضل المواطن على تدهور ظروفه المعيشية أو فقدانه حقا من حقوقه أو مكسبا من مكاسبه. يحدث هذا ليس فقط في الدول التي تعيش في ظل أزمات مزمنة؛ بل حتى في الدول المتقدمة والديمقراطية. وعادي جدا أن يرفع المواطن صوته عاليا لإعلان مطالبه، خصوصا حينما يحس بأن الآليات التي تستعمل عادة في الديمقراطية المُفَوَّضَة démocratie déléguée من مجالس محلية وجهوية وبرلمان وحكومة لا تتفاعل مع مصالحه ومطالبه المشروعة. حينما يحس هذا المواطن المتضرر بأن لا أحد ينتبه إلى ضرره أو على الأقل لا أحد يلقي السمع لمعاناته ويتفاعل مع همومه وأحزانه كما هو مطلوب، يرفع صوته أكثر فأكثر حتى يفرض الاستماع إليه. هذا ما حدث بالأمس في الحسيمة ويحدث اليوم في جرادة، وبين الحسيمة وجرادة كانت هناك احتجاجات هنا وهناك جلها في ما يسمى بالهوامش أو ما ينعته بعضهم بالمغرب "غير النافع". ليس معنى هذا أن المواطنين في المدن القريبة من المركز لا مشاكل لديهم ولا مطالب؛ فحتى في هذه المدن هناك هوامش و"مغرب غير نافع"، وقد يلجأ المواطنون إلى الاحتجاج في أية لحظة لأن كل المواد والأسباب الضرورية لاشتعال نيران الاحتجاجات متوفرة وبرميل البارود الاجتماعي قابل للاشتعال بأبسط شرارة.

وطبيعي في سياق الظرفية التي خيمت وتخيم على الوطن العربي والإسلامي منذ حلول ما سمي بـ"الربيع العربي" أن يكون هناك اليوم خوف وقلق حقيقي، لدى عموم المواطنين ولدى أصحاب القرار السياسي والأمني خاصة: خوف وقلق من تطور الأحداث في المغرب حسب نظرية "الدومينو" (تطبيق محلي لهذه النظرية) أي تنتشر العدوى الاحتجاج الشعبي وتنتقل من موقع إلى آخر ومن جهة إلى أخرى. وهذا القلق والخوف هو ما يفسر الحضور والفعل الأمني اليوم في مواقع التوتر كجرادة. هناك تقوم هذه الأجهزة بما تدربت عليه حتى درجة الإتقان، أي العنف وقمع المحتجين؛ لكن سيان بين العنف الشرعي والعنف غير الشرعي. صحيح أن الدولة العصرية الديمقراطية تحتكر العنف الشرعي، فهذا أحد بنود العقد الاجتماعي، لضمان سلامة المواطنين وأمنهم وحماية ممتلكاتهم. وحينما أتكلم عن العنف الشرعي فبمعنى العنف الذي يستند إلى القانون المنظم للاحتجاجات بأشكالها المتعددة، أي أن يكون مناسبا بمعنى غير المفرط في استعمال القوة وعدم استفزاز المحتجين السلميين واحترام القانون المنظم لفك الاعتصامات والتصدي لأعمال الشغب إلخ..

لا أحد يجادل في الدور الذي يلعبه الأمنيون في كل بلاد العالم؛ ولكن شتان بين أدوارهم في مسارات ديمقراطية وبين أدوارهم في مسارات متعثرة يراوح فيها الانتقال إلى الديمقراطية مكانه، بل تجده يتراجع لفائدة توجهات نخبوية تؤمن بأولوية وأهمية اعتماد المقاربة الأمنية لوحدها أو على الأقل جعلها تطغى على باقي المقاربات. في المسارات الديمقراطية تجدهم دعامة أمان لتفعيل الديمقراطية والمحافظة على مكتسباتها أما في المسارات التراجعية النكوصية فإنهم يكونون أداة للبطش والاستبداد والمصادرة.

ما جرى في الحسيمة منذ شهور وفي جرادة منذ أيام من احتكاكات واصطدامات بين المحتجين وقوات الأمن مؤسف ومرفوض وتخللته الكثير من التجاوزات الخطيرة التي تمس بسمعة ومصالح البلاد وأمنها واستقرارها. ولا يسعني هنا إلا أن أندد بالخروقات والتجاوزات وأن أتضامن مع الضحايا وأقول إن ما جرى خطير ولكن هناك ما هو أخطر، وأخطر ما تشهده بلادنا في ما يجري في أماكن متفرقة من المغرب هو أن يجد الأمني نفسه في كل مرة لوحده في مواجهة مباشرة مع محتجين لهم مطالب اجتماعية أو سياسية أو حقوقية فيتحول إلى لعب أدوار ليست من اختصاصه. وأكيد هنا أن يميل هذا الأمني إلى المقاربة الأمنية ويغلبها على ما سواها. ما جرى في الحسيمة بشكل بارز ويجري اليوم في جرادة وغير جرادة يرجع بدرجة كبيرة إلى غياب الفاعلين المؤثرين الذين في استطاعتهم لعب دور الوسيط بين الفرقاء المتواجهين في الميدان، خصوصا حينما تتعقد الأمور ويقل منسوب التواصل والتفاهم بين هؤلاء المتواجهين وتنعدم الثقة بينهم.

حديثنا عن دور الوساطة يجرنا حتما إلى الحديث عن الوسطاء أي عن السياسيين والفاعلين الجمعويين. ضعف الوساطة من ضعف الوسيط ونحن نؤدي اليوم في بلادنا فاتورة أضعافا والتلاعب بالمشهد الحزبي والمشهد الجمعوي. نؤدي فاتورة عزوف الناس عن السياسيين ونفورهم منهم وعدم الثقة فيهم. كلفة غياب المصداقية عن العمل السياسي أصبحت باهظة الثمن وقد تزداد إن لم نتدارك الأمور ونعالجها كما يجب. ليس لدينا الوقت لتضيعه في المزيد من صناعة الفقاعات السياسية bulles politiques وزعامات فاقدة للمصداقية؛ فبالتأكيد لن نصلح مشهدنا الحزبي والسياسي بممارسات كانت السبب الرئيسي لنفور المغاربة من السياسيين وأقول بالمختصر المفيد- والحكيم يفهم بالإشارة- أن الأحزاب والفعاليات التي كانت جزءا من المشكل وأسهمت في وصول المغرب إلى هذا الوضع الاجتماعي بفسادها وتماهيها مع خيارات خاطئة لا يمكن أن تكون اليوم في طليعة عملية الاصلاح.

الوضع معقد وصعب وهوامش الحلول ضيقة؛ ولكن يجب أن لا ننظر إلى الجزء الفارغ من الكأس. فبالرغم من الصعاب والإكراهات استطاعت بلادنا أن تجتاز المنطقة المضطربة من الإعصار عند انطلاق "الربيع العربي" بالقليل من الخسائر؛ وذلك حينما بادر ملك المغرب من خلال خطاب 9 مارس 2011 بالتفاعل الإيجابي مع مطالب الشارع وهو تفاعل أدى إلى صياغة دستور جديد حمل الكثير من الإيجابيات حتى وإن لم يستجب لمطلب الملكية البرلمانية الذي طالبت به العديد من الجهات كما عرفت بلادنا إجراء انتخابات شهد جل متابعيها إلى أنها كانت الأكثر نزاهة وسيتم تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد في الغرفة الأولى وهو حزب كان يلقى الكثير من الصعوبات ويتعرض للكثير من المشاكل في علاقته مع جهات في الدولة. لكن الرياح المضادة ستجري بما لا تشتهيه سفينة الانتقال إلى الديمقراطية وعوض أن نمضي قدما في مسلسل الاصلاح السياسي تعثر الانتقال إلى الديمقراطية إن لم نقل توقف.

إن الخيار الديمقراطي خيار استراتيجي ولا يمكن أبدا التخلي عن المضي قدما في اتجاه دمقرطة المغرب كما لا يمكن بأية حال من الأحوال القبول بأية ذريعة يتذرع بها المرتدون عن الخيار الديمقراطي. خطاب التاسع من مارس قد وضع المغرب في سياق سياسي وسيرورة يجب أن تتطور لتبلغ أشدها ولكن بمواكبة وتزامن مع تحقيق إنجازات في مجالات حيوية أخرى كالمجال الاجتماعي والاقتصادي التنموي، إذ التحدي اليوم ليس بالمفاضلة حول أيهما يجب أن يحظى بالأولوية: الديمقراطية أو التنمية، بل في الإنجاز المتزامن للانتقال الديمقراطي والانعتاق من التخلف والفقر والأزمات الاجتماعية. بعد خطاب التاسع من مارس2011 الذي طرح القضية السياسية، كان هناك خطاب الملك أمام البرلمان عند افتتاح السنة السياسية 2018/2017 والذي أكد فيه بوجود اختلالات في النموذج التنموي الذي سلكه المغرب خصوصا في العقدين الأخيرين وطالب فيه بالتفكير في نموذج تنموي بديل.

مقاربة الإشكالات والأزمات والتحديات التي تواجه المغرب لا بد أن تكون شاملة في شتى المناحي وعلى جميع الصعد. إن الأمن السياسي يعزز الأمن الأمني وإن الأمن السياسي والأمني يعززان الأمن التنموي ويعززان الاستثناء المغربي وثقة الجميع داخليا وخارجيا في مناخ الأعمال والاستثمار.

وأكيد أن المشاكل المتداخلة والمتشعبة لا تحل بالحلول الخطية الوحيدة الاتجاه بل بشبكة من الحلول التي يكمل بعضها البعض. ونحن اليوم في بلادنا بقدر ما نحن مطالبون بإنهاء الانتقال الناجح إلى الديمقراطية بقدر ما نحن مطالبون أيضا بإعداد بديل تنموي يجيب عن أسئلة النهضة ويحقق التقدم والرفاه.

 

 

المصطفى المعتصم