مما يميز شخصية المغربي، قدرته على تغيير الأقنعة وكأنه على خشبة مسرح يؤدي أدوارا مختلفة الواحد تلو الآخر، ناسيا "مَنْ هو" ومؤمنا أن الحياة هي مجرد امتداد لخشبة المسرح. وهذا يدل على عدم استقرار هويته وإنكار حقيقته مما يتسبب له في نزاع داخلي قائم بينه وبين ذاته.

الإنكار بالواقع يفقد الفرد قدرته على الإدراك، و يعرقل تطوير شخصيته وقدراته. فإنكاره لغة الدارجة، لغته الأم هو ما يجعل من المغربي شخصا مزيفا جاهلا "مَنْ هو" ساعيا أن يكون "ما ليس هو".

وللتبسيط نأخذ كمثال، حين يلتقي عدد من الأشخاص في حفل ما، نراهم يمزحون ويتبادلون الأخبار باللغة الدارجة. وعندما يخوضون في حديث سياسي أو اقتصادي أو ديني، نلاحظ بأن البعض (المثقفين) يتحولون إلى "ما ليس هم" فتتغير ألسنتهم إلى لغة عربية أو فرنسية. أما البعض الآخر (الغير مثقفين) "يجهلون من هم" داخل المجموعة، فيلتزمون بالصمت إلى حين حضور وجبة الأكل، حيث يتوقف الحديث الثقافي وترجع كل الألسن إلى التكلم باللغة الدارجة لأن المغاربة يصعب عليهم "الأكل باللغة العربية" ويفضلون "الأكل باللغة الدارجة"!

ولو أن هؤلاء المثقفين خاضوا نقاشهم بالدارجة لأتيحت لهم فرصة تعلم أشياء كثيرة من الفئة الصامتة (الغير مثقفة) والتي لا تتواصل إلا بالدارجة ! ولو كانت اللغة الدارجة تدرس في المدارس لما صمت أحد، ولما ترك أحد فرصة المشاركة في تقدم الجميع.

بمعنى آخر، جَعل المثقف المغربي من الدارجة " لغة دْيالْ الدّْرّاعِية وْالبْلْغَة وْالبيجاما" ومن العربية "لغة دْيالْ الكوستيم والكْرْفاطا وْالجلابة البْيْضَ بالطربوش الأحمر وْالسّْبّاط البْيْضْ"!

أصعق كلما سمعت أهل الثقافة والعلم والتربية والتكوين يجهرون بسيف اللسان معلنين بأن الدارجة ليست بلغة وإنما هي لغة الجهل والهمجية وأن اللغة العربية هي لغة الحضارة والعلم. هذا ما كان يتردد على لسان المستعمر مقارنا لغته بلغة المغاربة. وهكذا يتعلم الطفل المغربي التمثيل وازدواجية الشخصية، بحيث يستعمل اللغة الأجنبية مثل العربية أو الفرنسية أو الإنجليزية إذا أراد أن يكون "ما ليس هو"(المثقف)، ثم يستعمل الدارجة ليعود إلى جهل "مَنْ هو"(الغير المثقف)، وهنا لا حاجة إلى سلوك حضاري مهذب لأن لغة الهمجية تتيح الفرص لجميع أنواع الفوضى التي نلاحظها في حياتنا المغربية.

فما هي الأسباب التي عرقلت تطور الدارجة المغربية وجعلتها لغة الجهل والهمجية؟

1- خوف أهل العلم: كل هؤلاء المثقفين (على حد اعتقادهم) يحاربون الدارجة ويرفضون تطويرها وتلقينها في المدارس لأنهم يخافون من حقيقة "مَن هُم" ويفضلون "ما ليس هم". كما أنهم يخافون من اليوم الذي يصبح اكتساب العلم والمعرفة يسيرا على المغاربة المتكلمين بالدارجة.

فأي الأمرين أهم؟ هل الحديث والثرثرة باللغة العربية؟ أم اكتساب العلوم والمعارف باللغة الدارجة؟

2- اعتبار الدّين علما: الدّين لم يكن أبدا علما من العلوم، ولم يدرس في الجامعات. أي من الرسل أتى برسالته إلى الجامعات وألقى محاضرة أو جعل من رسالته مقررا للتعليم؟ هل المؤمنون الأوائل في كل دين درسوا رسالة رسولهم كعِلم قبل أن يؤمنوا به؟ هل كان المؤمنون الأولون خريجي جامعات؟ هل تحدث أي رسول منهم مع قومه بلغة غير التي كانوا يتحدثون بها؟ فمن جعل من الدّين علما؟ هل الرسل أم أتباعهم؟

من الطبيعي أن اللذين جعلوا من الدّين علما وتجارة ومهنة قد رفضوا ترجمة الكتب المنزلة إلى لغة الشعب مثل ما كانت عليه الكنيسة من قبل باستعمال اللاتينية فقط رغم أن لا أحد كان يفقهها.

هكذا أصبحت اللغة العربية لغة الدّين واللغة الدارجة لغة الجاهلية. وهنا يأتي التساؤل: هل المؤمن المتكلم بالعربية أفضل من المؤمن المتكلم بالدارجة؟

3- تحقيق ما "ليس نحن": من مساوئ الاستعمار أنه غيَّر المسار الطبيعي الذي كان يسلكه مجتمعنا، وبشكل اصطناعي لقَّح أدمغتنا بخلايا عصبية أجنبية، وبذلك انقسم المجتمع إلى قسمين: "المجتمع الجاهل الهمجي الذي يتواصل بالدارجة" و"المجتمع المثقف العصري والذي يتواصل بلغة المستعمر" .

بعد خروج المستعمر الفرنسي حل محله مستعمر آخر عربي، في حين كان من الطبيعي أن تأخذ الدارجة مكانها الأول في التواصل والتعليم.

هل مقاومة المستعمر في الجبال وفي القرى والمدن تمت بالدارجة أم باللغة العربية؟



جواد مبروكي