وبدأت الكماشة تنطبق على ما تبقى من العرب، بعد مئة عام من أبشع تواطؤ عرفه التاريخ، قديمه ومعاصره، لم يحدث قط أن تواطأ خبثاء، من أشد البشر كراهية وعنصرية، تواطأ معهم في ذلك أشد الناس غباء وسذاجة، ليُنشئوا الكيان السرطان.

في هذه الأيام وفي هذا المنعطف الذي سيحكي عنه التاريخ، يعيش العرب أروع البكائيات والمرثيات في التاريخ، وأشدها إثارة للأحزان والأشجان، المدن التي كانت عربية تُعصر عصرا ويُلقى بأهلها خارج الجغرافيا والتاريخ، من يشاهد طوابير المطرودين الناجين الذين يقاومون ويداوون شعورا ذابحا بالألم، وآخر للفرح بالنجاة والبقاء على قيد الحياة، من ينظر إلى هؤلاء الأشهاد وهم يُركبون ويُدفعون دفعا تحت فوهات البنادق القادمة من كل مكان، يعلم أن المنطقة التي كانت عربية، وأن الناس الذين كانوا عربا، تحل بهم اليوم نائبة الدهر.

تحل بهم النائبة لأن الغساسنة عادوا إلى لعبتهم القديمة، عادوا بالفيل، يريد أن يدك الأسوار، ويأتي بالأغيار، يستوطنون الديار. عاد الغساسنة الجدد بعد أن هرقوا الدموع الساخنة بين يدي القيصر، وبعد أن عرجوا على الإيوان، وأتوا بالنار المعبودة يصبونها فوق رؤوس الصبية والأيتام والثكالى.

يأبى التاريخ إلا أن يعاكس العرب، العرب مادة التاريخ ووقوده الملتهب، في كل بؤرة يموت عربي، وفي كل جحفل للهجرة يُساق عرب، وكلما قطرت دمعة فالعين عربية.

ارتوت الأرض من الدمع العربي والأشلاء العربية، واختلطت الأرض العربية بالداخل والخارج، وارتفعت الرايات والألوية، وامتدت الأيادي، وصيروها أرضا للأشقياء بعدما كانت مهبطا للوحي والأنبياء.

لورانس العرب يظهر من جديد ويعد العرب بالمزيد، أعطوني ما تملكون، كلّ ما تملكون، تخْلُ لكم الأرض العربية.

إسرائيل والروس والأمريكان والترك والكرد والفرس وأنصار الله وأحزاب لله وأخرى للشيطان... كل هؤلاء يدلون ليس بدلائهم، بل بخبثهم وعنصريتهم، فوق الأرض العربية، ولاعبيها العرب، الأرض العربية التي تعيش اليوم فصلا متجددا من الخديعة والمكر، وتمور بأحدث التعاويذ، وخرائط الطريق التي تملل عليهم إملالا وإملاء.

بالأمس كانت الأرض العربية أرضا حصانا تحوطها المفاوز الملتهبة، اليوم تداس بالأقدام وبتواطؤ من أهلها، يستصرخون الغريب، وكل ووجهة هو موليها.

بلاد العرب رمل وبارود ورماد متوهج، والأرض العربية أرض للديانة والخيانة، وسيأتي المغول كرة ثانية، وسيغسلون أيديهم في حبر النهر. متى يكون للعرب يومهم الذي كان وكلمتهم التي شتتتها الأماني والتسابق حول الأعتاب؟

هل يمكن للتاريخ أن يغفر تردد "الزعماء" على البيت المصبوغ بالأبيض هناك والقصر ذي القبب الذهبية هناك، في تناوب واستدعاء مستمرين للتشاور والتآمر، يسترضونهم ليستبقوهم، ويشترون السلاح لينحر الأخ أخاه.

عندما يستقوي ابن الدار بالغريب، ويفتح الباب على مصراعيه أمام صائدي الجوائز والنفط، وعندما تمور الأرض العربية بالمكايد والدسائس، ويُقامر بالوطن في المنتجعات، وتحول أرصدة الكادحين إلى حيث لا يعلم أحد، حينها سنصبح وسنظل سبة العالمين، ورمزا تاريخيا للعبث وللخواء والعقم. هي الحال التي تشرع قولنا، ونكبتنا المتجددة التي لا تنتهي، ومصيرنا المضرس بالأنياب والديون والخيانة وذهاب الريح، وقومتنا التي ضيعوها في الملفات السرية وصفقات الليل البهيم.


 

عبد الحكيم برنوص