إن تعريف المقاولة ليس مجرد تمرين بسيط وسهل، بل هو فصل أكاديمي يستحق البحث والتدقيق، تتداخل فيه مجموعة من الفروع العلمية النظرية، ذات الطابع القانوني والاقتصادي، الاجتماعي والتجاري، والغرض منها إزالة كل الغموض واللبس لإعطاء مفهوم شامل وعميق. والاقتصادي ورجل التدبير بدوره يقحم نفسه في الموضوع، إذ يعرف المقاولة بأنها عبارة عن وحدة للإنتاج وخلق الثروات وفرص الشغل داخل إطار تنظيمي مهني ومحترف برأسمال ومقر اجتماعي، بالإضافة إلى الموارد البشرية وكل المعدات والأدوات واللوجستيك الضروري لخلق القيمة المضافة، انطلاقا من دورة عملية عقلانية من الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، وتسجيل ذلك داخل تطبيق محاسباتي، طبقا للقوانين الجاري بها العمل، فتحقيق التطورات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقق دون هيكلة المقاولة وتنظيمها وإعطائها المكانة الجوهرية داخل النسيج الاقتصادي العام، حتى تتمكن من الانفتاح على الأسواق العالمية وتحسين تنافسيتها وجاذبيتها، وبالتالي انخراطها ومساهمتها في التنمية الشاملة.

من هنا ينبغي أن نركز على أن المقاولة هي القاعدة الأساسية لاقتصاد دولة ما، وهي المحرك الرئيسي لكل المشاريع والأوراش والمخططات الكبرى لتوجهات الدولة، ولكل طموحات الفاعلين الاقتصاديين والساهرين على حسن تدبير كل المؤسسات الاقتصادية والمالية، ولا بد أن نذكر هنا أن المغرب لديه نسيج مقاولاتي متكون من 95 في المائة من المقاولات الصغيرة والمتوسطة، والباقي من شركات كبرى، عمومية وخاصة، وهي وحدات إنتاجية نسبيا ضعيفة على مستوى وزنها في مكونات الاقتصاد المغربي، الذي ما زال يعاني من ضعف نسبة النمو، التي بلغت 4.8 في المائة سنة 2017، حسب توقعات صندوق النقد الدولي. وبالرغم من وجود عدة مجهودات ومحاولات لتطوير المقاولة المغربية، فهي ما زالت تعاني من الولوج إلى الأسواق المالية والبنكية، سواء أثناء نشأتها أو خلال مرحلة انطلاق الاستغلال، زيادة على صعوبة التسويق، والبحث عن كفاءات ذات خبرات تقنية وتدبيريه تملك مفاتيح النجاح والقدرة على الابتكار وخلق ومتابعة كل الفرص التي يتيحها محيط المقاولة، نظرا إلى غياب الموارد المالية الكافية لهذه العملية.

تحدي السوق والمنافسة

يعرف محيط الاقتصاد العالمي تغيرات كبرى وسريعة بفعل العولمة واجتياح وسائل الاتصال والتكنولوجيات الحديثة، مما أفرز نموذجا جديدا يصطلح عليه بالاقتصاد الرقمي. وأمام هذا الوضع تبقى المقاولات المغربية مجبرة على هذا التحول، الذي له كلفة مالية، سواء فيما يتعلق بتكوين الموارد البشرية أو تحديث المنصة التقنية للمقاولة، وهي إمكانيات تساهم في الحصول على كل المعطيات والمعلومات، سواء في قلب المقاولة أو في محيطها، مثلا تحيين احتياجات الزبائن، والدخول إلى كل المعطيات التي تضعها كل المؤسسات الاستشارية العمومية، خصوصا داخل قطاع مثل الاتصالات والمعلوميات، الذي يحتم تجاوز قوى المقاولات الأخرى، بفعل التمكن من كل المؤشرات، التي تكون في غالب الأحيان عاملا بنيويا يساعد على التأهب لكل المخاطر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمنافس جديد قادم إلى السوق بشكل جديد وجاذبي على مستوى السعر والجودة وخدمات ما بعد البيع.

تحدي صعوبة مصادر التمويل

تسعى المقاولات الصغرى والمتوسطة إلى لعب دور محوري وحيوي في النمو الاقتصادي وخلق الثروة، وهي بذلك تشكل العمود الأساسي لأي اقتصاد صاعد وحديث، إلا أن هذا الصنف من المقاولات يعاني من صعوبات جوهرية على مستوى الحصول على رؤوس الأموال الكافية لتمويل مختلف المشاريع والطموحات الاستثمارية، نظرا إلى عدم التوفر على القدرات الذاتية للتمويل، وهو ما ينتج عنه ارتفاع نسبة المخاطر، وبالتالي ضعف على مستوى الضمانات المقدمة إلى المؤسسات البنكية والمصرفية، وهو ما ينعكس سلبا على المقاولة داخل حلبة المنافسة. في هذا الباب هناك إمكانيات توجد رهن إشارة المقاولات الصغرى والمتوسطة، منها عملية "مساندة "عن طريق مؤسسة "مغرب مقاولات صغرى ومتوسطة"، التي تأتي في إطار الميثاق الوطني للنهوض بالصناعة، وهو برنامج يهدف إلى تحديث وتحسين القدرة التنافسية لدى المقاولات الصغرى والمتوسطة، إلا أن هذا البرنامج لا تستفيد منه إلا المقاولات، التي تحقق رقم معاملات أقل أو يساوي 175 مليون درهم دون احتساب الرسوم، بالإضافة إلى أداء اقتصادي جيد، ووضعية قانونية سليمة مع إدارة الضرائب ومختلف المؤسسات الاجتماعية الأخرى.

للإشارة، فإن هذا الدعم هو عبارة عن تمويل للخدمات في حدود 60 في المائة من كلفة المشاريع دون تجاوز 600.000.00 درهم.

وهناك كذلك برنامج "امتياز"، وهو عبارة عن مسابقة وطنية للاستثمار، يتم تفعيلها لتقديم مشاريع مفتوحة أمام المقاولات الصغرى والمتوسطة ذات المؤهلات القوية، والمحتاجة إلى دعم مالي تكميلي للقرض البنكي في حدود 20 في المائة من المبلغ الإجمالي للاستثمار، لكن بنفس الشروط الذاتية والموضوعية لعملية "مساندة". طبعا كل هذه البرامج والفرص ليست في متناول هذه الشريحة من المقاولات، والمدخل إليها يمر إجباريا عن طريق الوصول إلى سقف معين من رقم المعاملات، وهو تحدٍّ مركزي لهذه الوحدات.

تحدي التكوين وتطوير الكفاءات

في ظل التطورات الاقتصادية والتكنولوجية، التي يعرفها محيط المقاولات الصغيرة والمتوسطة، فإن التكوين عنصر أساسي في تنظيم الموارد البشرية، ومن الآليات الدقيقة لتنمية كفاءة المقاولات وتمكينها من الإبداع على جميع المستويات. كما أن إدارة الكفاءات داخل المقاولات تعتبر من بين الأساليب والنماذج الحديثة لقيادة عمليات التنمية والابتكار داخل جميع المنظمات، سواء كان هدفها الربح أو عدم الربح. كما أن التطورات، التي يفرزها السوق من حاجيات الأفراد والجماعات، تحتم على هذه المقاولات طرح "التدبير التوقعي للمهن والكفاءات" لوضع مزيد من التقنيين والمدبرين رهن إشارة هذه المقاولات، بالإضافة إلى وضع برنامج سنوي للتكوين تحدد أهدافه ويُسهر على تنفيذها ومراقبتها وفحصها في نهاية السنة. كما أن هناك برامج خاصة يقدمها مكتب التكوين المهني إلى القطاع الخاص الراغب في الاستثمار في التكوين المستمر لبنيته البشرية والزيادة في مردوديتها، خصوصا مع مكاتب الاستشارات المختصة في الموارد البشرية، مع استرجاع مبلغ قد يصل إلى 70 في المائة من المبلغ الكامل المتفق عليه بين الطرفين.

في الأخير لا يسعنا إلا أن نقول إن معالجة موضوع من هذا الحجم ليس سؤالا عاديا، وإنما هو مجال واسع، سواء من حيث الشكل أو المضمون، لذلك حاولنا لمسه وفق مقاربة تنظيمية عملية انطلاقا من تجربتنا الميدانية، لأن المقاولات الصغرى والمتوسطة لا تعاني من أزمة تشريع أو نصوص قانونية، وإنما تحتاج إلى مواكبة وتحفيز ودعم مؤسساتي، تنخرط فيه الدولة بكل قطاعاتها، بشكل فعلي وجدي، دون الرجوع إلى التشخيصات الروتينية الكلاسيكية، بل إلى الإرادة القوية في زمن التحولات غير المرتقبة وغير المرضية في بعض الأحيان.

محمد العنتري

*باحث في تدبير الشأن العام