من علامات تقدم الشعوب والأمم اليوم، تقدمها في المجال الديمقراطي، وكلما تقدم الناس في الخيار الديمقراطي تقدموا في الأمن والاستقرار والتنمية وعناصر القوة لما يصاحب النزعة الديمقراطية في الغالب من فرز لأجود القرارات وأفضل الخيارات وأرجح المصالح وأنسب القادة لشعوبهم، وأكبر عدوان على أي أمة أو شعب هو حرمانه من الخيار الديمقراطي وإغراقه في أوحال الاستبداد الذي يجر معه التخلف والفساد وانتكاسة الإنسان.

ولن يكون الدين الخاتم المتمثل في الإسلام إلا مؤيدا ومرسخا للخيار الديمقراطي ومعاديا في روحه وجوهره للاستبداد والتسلط، وداعيا إلى تبني أرقى أشكال التشاور والتداول وإشراك أكبر قدر من المعنيين بالمصالح العليا للبلاد والعباد في أمور السلطة والثروة وخير الدنيا والآخرة.

ونميز في الإسلام بين المبادئ كما جاءت في الوحي وكما جسدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين التطبيق والتنزيل والممارسة التاريخية للمسلمين، حيث القرب أو البعد من مبدأ الشورى والوفاء وحسن التمثل أو ضعف ذلك أو حتى انعدامه والاتيان بنقيضه.

كما وجب التمييز بين مبدأ الشورى في أصالته ورسوخه وثباته وبين أشكال ممارسته وتنزيله بحسب البيئات والعصور والأعراف والعادات والإمكانات المتاحة، والمفروض في المسلمين في كل وقت وحال أن يعمدوا إلى أحسن وجوه ممارسة المبدأ وأرقى أشكال تنزيله، فمن طبعهم وما يجب في حقهم كما قال تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"، أي حسن التنزيل والتطبيق؛ إذ لا يتصور قول أفضل من القرآن وإنما يجتهدون في حسن ممارسة مبدأ الشورى المأمور به، فيأخذون بأفضل أشكالها التي اهتدت إليها البشرية في الدنيا، ومن ثم يكون أحسن تطبيق للديمقراطية في العالم هو المطلوب مجاراته وحتى إبداع ما هو أفضل منه، ودائما في إطار مبادئه وأصوله وثوابته وخصوصياته الحضارية.

فهذا الدين رسخ بقوة مبدأ الشورى والتشاور في حس المسلمين والمتدينين ببصيرة ووعي، فرب العزة في عليائه يعلم خلقه مبدأ التشاور ممن هو كامل غني عن الخلق والناس وعن عقولهم، كما قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) البقرة.

فلو كان الغرض مجرد إعلام وإخبار لما كان للحوار وإرجاع القول مجال، وإنما يظهر من المقصد تعليم الانسان الشورى والمشورة لتكون في حق المخلوق أولى، وربنا أيضا أمر بهذا المبدأ نبيه رغم أنه معصوم ومؤيد بالوحي فقال له:﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾.

والأمر جاء بعد غزوة أحد التي كانت معركة أفرزها التشاور وما مال إليه رأي أغلبية الشباب بالخروج إلى العدو في حين كان رأي الأقلية وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا في المدينة مدافعين العدو المهاجم لها، فالشرع أمر بمواصلة الشورى والتشاور حتى ولو كان في إحدى الجولات هزيمة، ورفض الاستبداد حتى ولو كان في احدى جولاته النصر.

وحكى لنا القرآن الكريم قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاورة ابراهيم عليه السلام لابنه اسماعيل عليه السلام في أمر رباني جاءت فيه رؤيا وهي من الحق والوحي قال تعالى:﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: 102].

وحكى لنا كتاب الله فيما يشبه سياق المدح لملكة سبأ أنها أوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وأعظم ما فيه أخذها بمبدأ الشورى والتشاور فكان شعارها: "ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون"، وكان عاقبتها خيرا جنبت قومها الهلاك ودخلت مع سليمان عليه السلام الإسلام لرب العالمين.

وحكى كتاب الله قصة طاغية زمانه فرعون الذي قال: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد"ِ، وما آل اليه أمره من خسارة وهلاك ووبال على نفسه وعلى بني قومه.

ثم جعل الله خاصية التشاور صفة للمؤمنين لا تقل شأنا عن صفة الصلاة والزكاة والانفاق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.وليست الشورى صفة لهم في اجتماعهم وسياستهم فقط، وإنما في شؤونهم الأسرية أيضا، قال تعالى: "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا".

وجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشورى في تفاصيل حياته وأموره الشخصية كما وقع من مشاوراته في شأن عائشة رضي الله عنها بعد حادثة الافك، بل وحتى في بعض الأمور العبادية التي لم ينزل فيها وحي، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس لِما يُهِمُّهم إلى الصلاة، فذكروا البوق، فكرِهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس، فكرِهه من أجل النصارى، فأُرِيَ النداءَ تلك الليلة رجلٌ من الأنصار يقال له: عبد الله بن زيدٍ، وعمر بن الخطاب، فطرَق الأنصاريُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلًا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا به فأذن، قال الزهري: وزاد بلالٌ في نداء صلاة الغداة: الصلاة خيرٌ من النوم، فأقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: يا رسول الله، قد رأيت مِثل الذي رأى، ولكنه سبقني"، (رواه ابن ماجه).

وأما الأمور المصلحية العامة فالأصل عنده المشورة والتشاور كاستشارته أصحابه في الخروج إلى قتال قريش في غزوة بدر، وفي اختيار موقع المعركة والمكان الذي ينزله المسلمون فيها واستشارته في أسرى بدر وما يفعله بهم، واستشارته في الخروج إلى أحد وترجيحه رأي الأغلبية فيها، والاستشارة قبل غزوة الأحزاب وما كان من أمر حفر الخندق، واستشارته في مصالحة غطفان على نصف ثمار المدينة، واستشارته المسلمين عند قدوم وفد هوازن وفي إرجاع أموالهم وما تمت غنيمته منهم... إلى غير ذلك من الوقائع والأحداث التي شاور فيها صلى الله عليه وسلم.

وكذلك كان دأب أصحابه من بعده بدءا من واقعة سقيفة بني ساعدة حيث أسفرت المشاورات على اختيار أبي بكر رضي الله عنه أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشارة أبي بكر في تولية عمر رضي الله عنه، وجعل عمر الخلافة مشورة بين الستة من كبار الصحابة وترسيخ أمر استشارة الناس في ذلك، وكان الخلفاء الراشدون معروفون بعقد مجالس شورى في الأمور التي تهم الأمة، وبقيت هذه السنة بعدهم تقوى أو تضعف في الأسر التي تعاقبت في الحكم.

ولا شك أن أول خلل وقع في حكم المسلمين وقع في مبدأ الشورى؛ بحيث لم يتم تطويره إلى مؤسسات قائمة مستقلة عن مزاج الحكام، فحدث أن حرمت الأمة في مراحل مختلفة من تاريخها من بركة الشورى وحرمت تبعا لذلك من خير ورشد الأفكار والقرارات والرجال.

ولهذا ما فتئ العلماء الأماجد من سلف هذه الأمة يشيدون بأمر الشورى، قال الحسَن البصري عن الشورى: ما شاوَر قومٌ قط إلا هُدُوا لأرشَدِ أمورهم؛ (تفسير الطبري؛ جـ 7 صـ 344)

وقال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره عن ابن عطية قال: "والشورى مِن قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومَن لا يستشير أهلَ العلم والدِّين فعزلُه واجب، هذا ما لا خلاف فيه".

وقال ابن خويز منداد: "واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم مِن أمور الدِّين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها، وكان يقال: ما ندم مَن استشار، وكان يقال: مَن أُعجِب برأيه ضلَّ".

فالشورى مبدأ أصيل وثابت في نظام الحكم في الإسلام، يشكل أحد أركان دولة الإسلام المتمثلة في الإسلام والعدل والشورى والتنمية والوحدة، وما الديمقراطية سوى آلية متقدمة ومفصلة لتنزيل مبدأ الشورى تنتج إجماعا على خير الأمة أو حكما أغلبيا راجحا لتدبير شؤون المسلمين فيعلو شأنهم كلما أعلو من شان الشورى والديمقراطية وتذهب ريحهم كلما ساد فيهم التسلط والاستبداد.


 

محمد بولوز