التبست ردود الفعل عند الكثيرين من الفرنسيين يوم 21 مارس 1998 عندما تأبطوا أول جريدة مجانية،  /ميترو/ يتصفحونها، دون مقابل.. مواضيع خفيفة وأخبار وطرائف مرفقة بإعلانات بسيطة لكنها أكثرا قربا من اهتماماتهم. إعلان عن أثاث منزل، فرص سفر للمغرب، وصفات غذائية جاهزة، وبين هذا وذاك إعلانات تجارية لا تخلو طبعا من استغلال جسد المرأة حتى لو كانت السلعة عن ماركة سيارات.

وقد وضعها معظم الإعلاميين آنذاك، في خانة الصحافة الهاوية التي لن تعمر طويلا، كما حدث لما أطلق عليه بصحافة الرصيف التي حققت انتشارا واسعا في السبعينات، وسرعان ما تراجعت لتندثر بعد عقد من الزمن. ويكذب هؤلاء اليوم ما يشهده الفضاء الإعلامي الفرنسي من انقلاب حقيقي مع تنامي توزيع الصحافة المجانية، وسعي صحف يومية كبيرة مثل لوفيغارو ولوموند إلى إصدار مثل هذا النوع من الصحف، تربط القارئ بالصحيفة الأم، وتثير رغبته في متابعة ما بدأ قراءته في الصحيفة المجانية.

وبينما كانت في بداية نشأتها تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، انتصبت اليوم كصحف عامة، بإدارة تحرير وصفحات في مختلف مجالات العمل المهني من سياسة واقتصاد ومقالات تحليلية على قدر كبير من الاحترافية.

وتفيد الجمعية الفرنسية لتوزيع الصحف في آخر تقرير عن سوق القراءة بفرنسا بثته جريدة “لوباريزيان” أن الصحيفتين المجانيتين “فان مينوت” /20 دقيقة/  و”مترو” تحتلان المرتبة الأولى في سلم الصحف والمجلات الأكثر قراءة، بأزيد من مليون قارئ متقدمتان على  اليومية الرياضية “ليكيب” (650 ألف قارئ)، ثم “لوموند” (550 ألف قارئ).

ويرصد التقرير التراجع في المبيعات الذي شمل سنة 2016 معظم كبريات الصحف اليومية، ومنها “لو فيغارو” 4.4 في المائة و”ليبراسيون” 6.2 في المائة و”لي زيكو” 6.4 في المائة و”لوموند” 7.5 في المائة و”لا تريبون” 2.3  في المائة. ولا تقتصر الظاهرة، كما ورد في التقرير، على فرنسا، حيث يومية “انترناشيونال هيرالد تريبون” الأمريكية قد واجهت انخفاضا في مبيعاتها سنة 2016 بنسبة 4.16 في المائة. وفي بريطانيا تراجعت مبيعات “ذي فاينانشيال تايمز” بنسبة 6.6 في المائة، وفي ألمانيا تراجع النشر خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 7.7 في المائة، وفي الدانمارك بنسبة 9.5 في المائة وفي النمسا بنسبة 9.9 في المائة، وفي بلجيكا 6.9 في المائة وحتى في اليابان حيث السكان هم من أكثر القراء في العالم، حقق التراجع نسبة 2.2 في المائة. وفي الاتحاد الأوروبي انخفضت خلال السنوات الأخيرة مبيعات الصحف بمعدل مليون نسخة يوميا.

سبب ثاني شكل هو الآخر ضربة موجعة للصحف التقليدية، ويتمثل في الانتشار الهائل للأنترنيت، حيث تؤكد الأرقام أنه خلال النصف الأول من عام 2016 فقط، افتتح ما يزيد على 5.7 مليون موقع (ويب) جديد. ويبلغ عدد هذه المواقع حاليا 120 مليونا في العالم كما أن هناك ما يزيد عن مليار شخص يستخدمها. وبدا التخلي عن قراءة الصحف وحتى عن مشاهدة التلفزيون لصالح جهاز الكمبيوتر، أمرا مألوفا في فرنسا بعد ظهور خط (أ.د.إيس.إيل) الذي غير المعطيات بكل المقاييس حيث ما يزيد عن 7.5 مليون منزل مشترك في فرنسا مع إمكانية الحصول بمعدلات كبيرة على الصحافة الموصولة على الانترنت (79 في المائة من الصحف في العالم باتت تملك مواقع نشر على الشبكة).

وقد وجد القارئ ضالته في المواقع الإعلامية لأنها غير مكلفة من جهة ولأنه يراها من جهة أخرى جريئة في مواضيعها ومستقلة في توجهاتها. طبعا لهذه المواقع خصوم وأعداء كثيرون يخشونها لأنهم يدكون قوتها، كما ألمح إلى ذلك دياز رئيس جمهورية المكسيك “أود أن أكون صاحب جميع المواقع لأحرقها”، أو كما قال عنها الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو: “لا أخاف بوابة جهنم إذا فتحت بوجهي، ولكني أرتعش من قلم محرر في مواقع الاتصال”. فيما لخص قيصر روسيا نيقولا الثاني كرهه للقلم بصفة عامة بقوله ” جميل أنت أيها القلم ولكنك أقبح من الشيطان في مملكتي”.


أحمد الميداوي