وجود نقاش سياسي حقيقي في مجتمع ما، واهتمام الناس، عامتهم وخاصتهم، بالتدبير اليومي لشؤون بلدهم وانشغالهم بمتابعة من يتحملون مسؤولية تصريف هذه الشؤون..

كل هذا يعد عنصر قوة وعافية وامتيازا نوعيا لمن يؤمنون، حقا، بالحياة الديمقراطية، ويرغبون، فعلا، في استنبات مبادئها والاستفادة مما تعد به في بلادهم.

إن انشغال الناس بقضايا بلدهم الحقيقية يعني انخراطهم في المسار الطبيعي للوطنية الحقيقية، من خلال مساهمتهم في البحث عن الحلول، والإجابة عن الأسئلة المقلقة؛ وهو ما يعني، في النهاية، أنهم مواطنون، بالقوة وبالفعل، يمارسون وطنيتهم، حالا وواقعا.

إن الانخراط في الشأن العام ضرورة وجودية، مرتبطة بوجود الإنسان، المادي والمعنوي، فكل موجود هو بالضرورة منخرط، إن لم يكن بالإيجاب، وبالفعل الباني، فبالسلب، وبالفعل الهادم، والهدام، فإذا لم تتح للناس الفرصة للانخراط، بشكل طبيعي وصحي مبني على الحرية، والشعور الحقيقي بالانتماء، فإنهم سينخرطون، بطريقتهم، سينخرطون بالسلب.

وإذا كان الانخراط بالإيجاب ألوانا، تحضر فيها معاني الإرادة والرغبة الصادقة وقوة الاقتراح والبحث عن الشرعية والمشروعية، فإن الانخراط بالسلب، أيضا، ألوان وأشكال، أذكر منها ما يلي:

1_الصمت السلبي: وعنوانه الكبير عدم الاهتمام، والتبرم من كل ما له علاقة بالشأن العام، وصوره كثيرة ومتباينة؛ ومنها الانعزال الكلي أو الجزئي، عدم إبداء الرغبة في الخوض، فيما له علاقة بالمسمى السياسة، الهروب إلى الهوامش، والإغراق في التفاهات، والبحث عما يثير الضحك والسخرية، الرخيصة، باستمرار، إلخ.

2_ العدمية: وصورتها البارزة الرفض الكلي وغير المبرر لأي موقف أو رأي أو مبادرة، بحجة عدم واستحالة تحقق أي تغيير على أي مستوى. طبعا، أصحاب النفس العدمي، هذا، لا يملكون جوابا مقنعا، ولا تحليلا دقيقا.

3_ التطرف في الرأي والممارسة: وصورته الواضحة العنف اللفظي، الذي يتطور، سريعا، إلى عنف مادي، مباشر، وطبعا، هذه صورة بارزة ومؤلمة في آن، للانخراط بالسلب في الشأن العام، لأن نتيجتها هي الخراب القيمي والمادي، معا، من خلال إشاعة أجواء مفعمة بالتشنج والاحتقان والانتهاء بسفك دماء الأبرياء، بحجة الرغبة في تغيير المنكر ومحاربة الفساد. كل مواطن هو بالضرورة منخرط في الشأن العام، إما بالإيجاب وإما بالسلب، والأمم العظيمة، هي من توفر لمواطنيها، سبل الانخراط الإيجابي، بما يضمن مساهمتهم، جميعا، في مناقشة واحتضان ومواجهة القضايا الحقيقية والجوهرية لبلادهم، في أفق معالجتها والتغلب على أعطابها.


 

إبراهيم أقنسوس