خارج الصيغ المتعددة للرقابة على المال العام، التي تقوم على أرض الواقع، تظلل "أزمة" الفساد المالي قائمة، ولربما تتجاور هذه "الأزمة" كل الآليات التي تتوفر للقضاء وللبرلمان والحكومة؛ وهو ما جعل حكومة التناوب (أبريل1998) تفتح الباب على مصراعيه للبحث والتقصي، في محاولة لاستشراف مقاربة جديدة في تدبر الشأن العام والمال العام لتعيد الثقة بين المواطن والإدارة، وجعل هذه الإدارة في خدمة الصالح العام.

في نطاق هذه المقاربة، جعلت حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي من تخليق "الحياة العامة" ورشا أساسيا في أوراشها الإصلاحية؛ وهو ما تطلب منها تفعيل برامجها بميثاق واسع للتخليق وحسن التدبير، ويقوم على ثلاثة منطلقات:

• منطلق أخلاقي، يدعو إلى محاربة كل أشكال الانحراف واستئصال النفوذ والتسيب.

• منطلق الترشيد، يدعو إلى تدبير الأموال العامة وفق مبادئ الدقة والشفافية والاقتصاد.

• منطلق التواصل يقوم على الإنصات للمواطن والمقاولة، وعلى تقديم أفضل الخدمات المطلوبة.

و في نطاق هذا الورش، أعلن التصريح الأول لحكومة التناوب (أمام البرلمان 1998 ) عن عزمها إلغاء الامتيازات وتجميد الأجور العليا ومراجعة وترشيد نظام المرتبات بالوظيفة العمومية، وفق معايير منسجمة، تعتمد على قيم العدالة والاستحقاق والمردودية.

وقد أولى هذا التصريح مكانة متميزة للأنظمة الرقابية القائمة لبلورة مهامها وأساليب عملها وتفعيل أدائها، بما يستجيب لطموحات وتطلعات المواطنين في تحسين الخدمات. كما أولى أهمية خاصة لمسألة تفعيل ميثاق حسن التدبير، على أساس تقويمه وتكريس قيمه المتمحورة حول دولة الحق والقانون والمصلحة العمومية والشفافية والفعالية والمردودية وتخليق الحياة العامة.

وفي إطار هذا الميثاق، طالب الوزير الأول من حكومته (رسالة 1999) إعطاء الحكومة الوسائل والآليات، لترشيد النفقات العمومية والرفع من مستوى الأداء والنجاعة والتسيير السليم للمصالح العمومية ومرافق الدولة وتأسيس العمل الحكومي على أخلاقيات مستمدة من قيم المواطنة والاستقامة والكفاءة والاستحقاق والوضوح والشفافية واحترام القانون وروح المسؤولية والحوار والتشاور والعدالة والتضامن والاحترام الدقيق لمقتضيات ظهير 7 دجنبر 1992 المتعلق بالتصريح بالممتلكات.

ودعما لهذا الميثاق، دعا الملك محمد السادس، في رسالة موجهة إلى "الندوة الوطنية حول دعم الأخلاقيات بالمرفق العام" (نظمتها وزارة الوظيفة العمومية في أكتوبر1999) إلى ضرورة سمو الأخلاق واستقامتها في الإدارة العمومية، وتقديم ما قد يطرأ من انحراف عليها، فالأخلاق أساس من أسس الدولة ، تقوم بقيامها وتنهار بانهيارها.

هكذا يكون ورش تخليق الحياة العامة، في عهد حكومة التناوب قد جعل التخليق عنوانا بارزا للمرحلة الراهنة؛ ولكنه يبقى دون معنى خارج إعادة النظر في المفاهيم، وفي أساليب العمل، وفي التصورات العامة الموجهة للأفعال والسلوكيات والمناهج المعتمدة في تسيير الشأن العام؛ وهو ما يعني التمهيد الموضوعي للإصلاحات الجوهرية التي تفرضها التحديات التي يطرحها الفساد والعولمة.

هكذا يبدو أن المغرب، الذي يتوفر على آليات عديدة لمراقبة المال العام، قائمة على صرح تشريعي متميز، بقيت وما زالت معطلة لفترة طويلة، إلى أن استطاع الفساد اختراقها وتجاوزها في الزمان والمكان، وأصبح منظومة تتداخل مع الإدارة والسلطة، وتتجاوز القانون والسلطة والأخلاق.

• فكيف على مغرب اليوم وعلى رأسه حكومة ضعيفة مواجهة هذه الحالة؟

• هل يتطلب الأمر قطع يد السارق لقطع دبير السرقة؟

• هل يتطلب الأمر الاكتفاء بالضربات الوقائية الانتقالية التي تظهر وتختفي في الأحداث والمناسبات؟

• هل يكفي تفعيل آليات المراقبة من جديد لتطهير الفساد المتفجر بقوة بالمؤسسات والصناديق المالية؟

• هل يكفي التحسيس بأهمية تخليق إدارة الشأن العام لحماية الإدارة والمال العام؟

• هل يكفي مراجعة القوانين وتغيير مسؤولين بآخرين للحد من الموجة الصارخة لهذا الفساد؟

بعيدا عن هذه الأسئلة وغيرها وغيرها، يجب التأكيد على أن وضعية المغرب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الفساد، وأن أزماته المتعددة والمتداخلة في التعليم والصحة والشغل والإدارة / كما في الاقتصاد والصناعة والسياسة والمجتمع أصبحت بحاجة، وأكثر من أي وقت مضى، إلى إصلاح سياسي جذري وشامل، يعيد إلى الدولة هيبتها وموقعها، ولن يتأتى ذلك إلا بإرساء قواعد دولة القانون. ووضع إستراتيجية لإصلاح الفساد متعدد الصفات، الفساد المالي/ والإداري / والسياسي في موقعه الحقيقي، واتجاه وضعيته القانونية والسياسية الحقيقية؛ وهو ما يتطلب تعبئة شاملة للأحزاب والمنظمات والنخب والكفاءات والفعاليات الوطنية، إلى جانب حكومة صالحة وسلطات قادرة على التدبير والإصلاح الذي تتطلبه المرحلة الراهنة. ولن يتأتى ذلك خارج شروطه الموضوعية، وهي فصل السلط على قاعدة نظام الملكية الدستورية، وإقامة حكومة تمثيلية مسؤولة، ذات كفاءة عالية، تتبنى مشروعا حقيقيا للإصلاح الشامل الذي يتطلبه مغرب اليوم / مغرب الألفية الثالثة / ومغرب عهد محمد السادس في إدارته وسياسته وماله ومجتمعه وكافة قطاعاته ومرافقه، لمواجهة تحديات العولمة، وتحديات التطور الحضاري وتحديات الحداثة.

أفلا تنظرون؟


 

محمد أديب السلاوي