1-أربعاء التحريرة : وهي ليست غير أربعاء التحرر والتحرير من ربقة الكُتَّاب، ونير التشدد والعقاب. وعددها يزيد على مئتين وأربعين أربعاء، قضيتها في سِنِي الطفولة الأولى والثانية بين الخمس والعشر من عمري. مشدودة إلى ذكريات المرح والهناءة والحبور، مربوطة ب "الفقيه" السي عمر رحمه الله. أربعاء منتقاة، مخصوصة، دامغة ومدموغة إذ فيها كنا نتحرر من سجن الكُتَّاب، وعذاب الحفظ والترداد، وسلخ الفقيه لنا، للذين يشردون أو يتأخرون في حفظ السور القرآنية، أو يقفزون ويتلكأون عند آية من الآيات الكريمة. كانت الأيام الباقيات من الأحد إلى الأحد، مثقلة بالعمش والنوم والدوار الذي يصيبنا بسبب الجوع والبرد، والنوم القليل، حيث نُفيق في الأبكار، في الأفجار المظلمة الضبابية الصقيعية لننحشر كالديدان المتكاثرة في غرفة في حجم كف اليد، تتسع لنا غصبا وترتيبا، وقلبا وشقلبة، وأوضاعا مختلفة. نُدَلْدِل رؤوسنا الصغيرة الشعتاء، ونُمَرْجِح أكتافنا الضئيلة الواطئة المخطوفة، ونحن شاخصون كالتماثيل المهجورة في الفراغ، أو في وجه الفقيه النائم المتناوم الذي يفتح عينيه بين لحظة وأخرى، مُطوِّحاً بعصاه السفرجلية المعوجة الصلبة، فيصيب رأسا تلو رأس، ووجها تلو وجه، وسحنة شاحبة بعد سحنة. لذلك كان الأربعاء يوما مشهودا، يوما يتيه على أيامنا المغبرة المكرورة والملساء، لأن فيه نتحرر بعد أن نكون قد اختلفنا باكرا إلى الكتاب. ثم ما يعتم أن يأتي أو تأتي أحدهم أو إحداهن، وبين يديه أو يديها، صحن عريض يفيض رقائق، وخبزا ساخنا مُسَمّدا، وزيتا وزبدة وعسلا، ومعه إبريق أو إبريقان من الشاي المنعنع المُشَهّي الذي يملأ المكان عطرا ورشحا وتَلمُّظا.

يبسمل الفقيه، ويغوص عمقا وأطرافا في ما حضر ووضع رهن يديه، ومعدته، ونحن أنظار وريق يتحلب، وجوع يعوي، وحسد ما بعده حسد، غير أن ما كان يشفع له، ويرفعه في أعيننا، إطلاقه لسراحنا، و تحريره لرقابنا المُرْتَهَنَة، ورؤوسنا المدسوسة في الألواح والصمغ والصلصال، وقلوبنا المرتجفة خوفا من طيش عصاه. يطلب منا –في حالة نشوة وشبع وهو يتجشأ- أن نرفع أكفنا الصغيرة، وأيادينا الضامرة، للدعاء للسيد أو السيدة الكريمة، بموفور الصحة، والعافية، والنجاح، ودخول الجنة. يطلب ذلك وهو يُلوِّح بالقطعة النقدية الصفراء: عشرون سنتيما : أربع ريالات، في تَماهٍ مادي ميتافيزيقي مع يوم الأربعاء.

فكيف تُنْسى مباهج هذه الأربعاء الطفولية التي تحضر رشيقة، زاهية تائهة على باقي أيام الأسبوع، حيث يتاح لنا اللعب واللهو، والشيطنة، وملء الحواري والأزقة بشغبنا وصراخنا، وهياجنا ونحن أنصاف حفاة، أنصاف عراة.

2-أربعاء الحديث : ليس بحديث الرسول الأكرم، ولا بحديث اللغو، وتمرير الوقت في الهذر والنميمة والاغتياب، بل هو حديث أدبي بديع، وكلام في وعن الشعر رفيع، يأخذ بالقلب واللب، ويسبي الوجدان والفؤاد، ويشبع جوعتنا الروحية، وظمأنا النفسي إلى ما بهما يكونان، وبهما يقتاتان ويتغذيان، فيرتقيان ويسموان. إنه حديث الدكتور العميد طه حسين: حديث الأربعاء الذي جمعه في كتاب من ثلاثة أجزاء أصدرتها دار المعارف المصرية الشهيرة إبَّا نَئِذٍ، بعد أن كان متفرقا في صحيفتيْ : "السياسية، و"الجهاد".

فإذن، هي أربعاء الشباب والفهم والحلم، أربعاء الطموح المترامي، والطمع المتزايد في أن أحوز ما تحدثني النفس به، ويرنو إليه قلبي وعقلي.

وقد افترض طه حسين شابا مُتَغَرِّبا، مُسْتَلَبا، يكره الأدب العربي، ويعتبر العربية جامدة ومتخلفة مقارنة بالأدب الغربي، قديما وحديثا، من خلال مرجعيتيه: اليونانية واللاتينية. ومن ثَمَّ، قام طه حسين متصديا له، محدثا إياه كل أربعاء عن سحر الأدب العربي في ما سمي ب "الجاهلية"، وعصوره اللاحقات. ومعنى هذا أن اتفاقا أبرم بين العميد، والعنيد، وموعدا أربعائيا ضُرِبَ ليملي الأول نتفا وفصولا مبهرات من ذلك الأدب، وينصت الثاني إليه عله يقتنع بحجج الأديب الأريب، ورائع عرضه وتفصيله للشعر الجاهلي والأموي والعباسي.

يقول طه حسين : (.... ثم تم الاتفاق بيننا على أن يكون الأربعاء من كل أسبوع، موعدا لهذه النزهة في صحراء الأدب الجاهلي، التي يراها الناس صحراء، وأراها أنا حديقة من أجمل الحدائق وأروعها، وسنرى كيف يكون حكم صاحبي، وكيف يكون حكم القراء حين يقرأون ما يكون بينه وبيني من حوار أثناء هذه النزهة القصيرة).

غير أن هذه النزهة القصيرة امتدت، وصارت نزهات وتجوالات، وسفرا غنيا ثريا في دنى وعوالم الأدب الجميل، والشعر الساحر، مروية، ومحكية في إهاب من العرض البديع، والتفسير البارع، والتحليل العميق، والبسيط من دون تقعر ولا معاضلة.

لقد قادتني قراءتي لهذه الأحاديث الأدبية الماتعة إلى البحث عن المعلقات أو المذهبات، والمفضليات، والأصمعيات منذ أيام الطلب والتحصيل الثانوي وانتهاء بالتعليم الجامعي، ثم الشخصي الخاص والمخصوص.

وعليه، فهي أربعاء أخرى، ما أعظم ما كانت مثيرة وممتعة ومفيدة، وما أدفأ ما قامت به، وهي تَدْرَأُ عني في ليالي الشتاء الطويلة، يد البرد الباطشة، وتنير ظلمات عزلتي وانفرادي، وَنأْيِي – أحيانا- عن الصحب والخلان.

3-أربعاء الرماد : وهي أربعاء العقل والنضج الأدبي، والاستقرار على مقصدي ومذهبي. أربعاء الشاعر الكبير إليوت: (Ash Wednesday)، والتي تعتبر إحدى قصائد القرن العشرين اللافتة والمتفردة بما يفيد، تشكيلها إلى جانب (الأرض الخراب) وهي للشاعر نفسه، انعطافةً للشعرية الكونية جهة البدخ والسموق والفذاذة.

وقد كتبها الشاعر بعدما عانى من خواء روحي فظيع، ومن قلق انطولوجي كبير، وشك وجودي قاتل. كانت "الأرض الخراب"، صورة ناطقة، بلسان بليغ، فادح العمق والخصوبة، عن الخراب العام الذي ضرب النفوس والأرواح والأفئدة، وأفرغها من قوتها، وتماسكها، وإنسيتها، وآدميتها.

إنه الخراب الروحي والمادي الهائلان اللذان عرفتهما البشرية، والحضارة الإنسانية غِبَّ الحرب العالمية الأولى، ما جعل الأدباء والشعراء يكفرون بالإنسان، وبصنيع الإنسان، بل يكفرون بالخالق العظيم، ويعتبرونه المسؤول الأول عما حاق ويحيق بالعالم جرَّاء تفرجه وحياده، ولاَ مُبالاَتِهِ. !

وقد انعكس هذا الخواء والانهيار القيمي والعقدي العام، في كتابات الشعراء والروائيين والمسرحيين والتشكيليين، حيث نجح هؤلاء المبدعون في رسم لوحات القتامة والسواد، والانسداد، وسقوط الآمال العراض، على مستوى الكتابة الشعرية –كما أسلفت- والقصصية والمسرحية، والتشكيلية.

على أن الإيمان سرعان ما بدأ يدب في قلب وروح ووجدان الشاعر إليوت، بعد اعتناقه للكاثوليكية وهو البروتستانتي، والانكليكانية المحافظة التي خاصمت كل مروق، واعتبرت دس الأنف في الغيب والميتافيزيقا، بمثابة زندقة وهرطقة. ومن ثم، تكون أربعاء الرماد قصيدة حب، وإيمان، و" موعظة جبل "، وتصالح مع الأرض والسماء. وقد مثلت ذروة الصراع الداخلي الذي خاضه الشاعر بين الشيطان فيه والملاك، ما قاده إلى اكتشاف الله داخل الإنسان.

ويمكن القول إن (أربعاء الرماد)، اجترحت لغة وأسلوبا جديدين لم يعهدهما قاريء إليوتْ الأول، القلق الحائر، الميتافيزيقي، فهي اعتنت بغنائية بديعة، وحس تأملي، لاهوتي عميق، على رغم نعتها بالتراجع الشعري قياسا بقصائد الشاعر السابقة.

ومع أن (أربعاء الرماد) لا تدعو إلى البهجة والابتهاج الاعتياديين، فإنها تعني بالنسبة إليَّ، بهجة القراءة، قراءة نص جديد في اللغة الإنجليزية معنىً ومبنىً – صورة، وتخييلا، ودعوة إلى العيش بامتلاء بعد البحث عن السكينة الروحية، وإشباع النفس بالإيمان، والاعتقاد في الخالق الأعظم، والانقياد المتبصر المتفتح على نواميس الكون، والعمل على إشاعة المحبة بين الناس وسط الخراب والخواء.

وللعلم، فإن (أربعاء الرماد) هو اليوم الذي يذهب فيه المسيحيون لحضور القُدَّاس، وترسم على جباههم إشارة الصليب بالرماد. وهو تذكير في التقاليد المسيحية بأن الإنسان هو "رماد إلى رماد، وتراب إلى تراب".

ولا تقتصر تقاليد أربعاء الرماد على الاحتفالات الدينية، إذ تسبق يوم (أربعاء الرماد)، ممارسات ومهرجانات اجتماعية مميزة ومثيرة تسمى : الكرنفالات.

وإذن، ألا تبعث المهرجانات، والمسيرات الكرنفالية في سَمْتِها المسيحي، على البهجة والابتهاج، وتَحُضُّ على الفرح والانشراح ما دامت الروح قد عادت إلى حقيقتها، وتجوهرت، فالتقت بالملائك، والموسيقى والرقص والغناء؟.


 

محمد بودويك