على متن المركب في إحدى الدول العربية العميقة، ولضيق الوقت وطول الإنتظار، تقاسمت الرحلة مع زوجين بدت الأخلاق في سماهما من النظرة الأولى، بدأتْ الرحلة وانشغلت بالمظاهر الخلابة من حولي، إلى أن قاطعتني السيّدة متسائلة: من وين حضرتك؟

أجبتها: من فلسطين.

تدخل الزوج هنا وقال: هل أنتِ من العائدين، هل تعيشين هناك أم في الخارج؟

أجبته مع ابتسامة: لا أنا بنت البلاد، اختار والدي البقاء على أرض فلسطين.

فقاطعني: يعني أنتِ مواطنة في اسرائيل أم تسكنين رام الله، مدينة الفاسدين؟

هنا، بلعتُ ريقي وأجبته: نعم أسكن رام الله، المدينة الجميلة الفاضلة التي تحتضن كل أطياف الفلسطينيين.

تابع الرجل: وكيف الوضع مع السلطة؟ أجبته: الوضع السياسي صعب جداً والاحتلال لئيم ولكن إن شاءالله بإرادة الشعب يتحسن الوضع وها نحن نبني وندرس ونعمل من أجل قيام فلسطين.

ضحك وقال: إيجابية ومتفائلة كتير إنتِ يا بنتي، من غير ما تخلصوا من مشروع ياسر عرفات وجماعته لن تحرروا فلسطين!

التفتُ للرجل وسألته: مَن أنت؟ ماذا تعمل؟ وهل زرتَ أرض فلسطين؟

فرد: أنا رجل أعمال فلسطيني مُّقِيم في جنيڤ، وَيَا بنتي هذا مشروع قامت به هذه الجماعة الفاسدة ليحققوا مصالح باسم التحرير ويعيشوا على حساب الشعب.

قاطعته هنا متسائلة:

-لو أصبح كل فلسطيني طموح رجل أعمال ناجح مثلك في سويسرا، هل تتحرر فلسطين؟

ثم يا عمو، كيف تتهم أهل رام الله بالفساد وأنت لا تملك أية أدلة، أحترمُ تحليلكَ الشخصي ولكن أنا ضد التعميم، هناك فاسدون في كل بقاع الارض ولا بد من محاسبتهم وإصلاح الحال ولكن ليس من حق اَي إنسان توجيه اتهام لأحد دون دليل، أرفضُ أن يكون التخوين وجهة نظر؛ إن لم تمتلك الأدلة، فالصمت أشرف. عمو، مع احترامي لفارق العمر، أودّ تذكيرك أن هناك فرق كبير بين حرية التعبير والتشهير!

نظرت إليّ السيدة وقالت: الله عليكي يا بنتي، لقد اشتقت لتراب فلسطين.

وصل المركب إلى الشاطىء وأعلن القبطان وقت النزول! التفتُ للرجل وقلت: شكراً لك ولكن كيف أحاسبك على إهدار وقت نزهتي الجميل؟

تذكرتُ هذه القصّة في هذا الوقت المرير الذي تمر به فلسطين من مؤامراتٍ وهدرٍ للطاقات، أخشى من الإشاعات وروح الانهيارات وما نشهده الْيَوْم يذكرني برأي المُفكر ابن خلدون الذي يعكس حالنا الْيَوْم حين قال،،

"عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون.. والكتبة والقوّالون.. والمغنون النشاز والشعراء النظّامون.. والمتصعلكون وضاربو المندل.. وقارعو الطبول والمتفيهقون.. وقارئو الكفّ والطالع والنازل.. والمتسيّسون والمدّاحون والهجّاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون.. تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط.. يضيع التقدير ويسوء التدبير.. وتختلط المعاني والكلام.. ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل.. عندما تنهار الدول يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف.. وتظهر العجائب وتعم الإشاعة.. ويتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق.. ويعلو صوت الباطل.. ويخفق صوت الحق.. وتظهر على السطح وجوه مريبة.. وتختفي وجوه مؤنسة.. وتشح الأحلام ويموت الأمل.. وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه.. ويصبح الانتماء الى القبيلة أشد التصاقا.. والى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان.. ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء.. والمزايدات على الانتماء.. ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين.. ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة.. وتسري الشائعات عن هروب كبير.. وتحاك الدسائس والمؤامرات.. وتكثر النصائح من القاصي والداني.. وتطرح المبادرات من القريب والبعيد.. ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته.. ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار.. ويتحول الوضع الى مشروعات مهاجرين.. ويتحول الوطن الى محطة سفر.. والمراتع التي نعيش فيها الى حقائب.. والبيوت الى ذكريات والذكريات الى حكايات." من مقدمة ابن خلدون.

حقيقةً، أن وضعنا صعب جداً والكل في حالة تأهب وانتظار، رسالتي الْيَوْم أن لا نسمح للفراغ والجو العام أن يخلط علينا الأمور، هناك فساد نعم وهناك تنجيم، لا بد من وضع حدٍ لهذه المظاهر وقريباً ستتكشف الأقنعة فلا تسيئوا التقدير، ومعاً كفلسطينيين علينا أن نثبت أننا شعب لا ينهار. ابن خلدون قال ما قال وعلينا الانتباه، نعم علينا الحذر، فما وصفه هو حالة انهيار من القرن الرابع عشر! لا تسمحوا ببث روح الانهيار،

علينا التماسك والتعاضد والصمود، يتوجب علينا نشر المحبة، علينا إيقاف الفتن، فلنصمد على هذه الأرض ولنعمل ولنبني ولنعلم أبناءنا البقاء، نحن شعب عهد التميمي وشعب ابراهيم أبو ثريا واحمد جرّار، نحن شعب لا ينهار فلا تسمحوا بأن يكون وطننا محطة سفر.


 د. دلال عريقات