الماضي ليس مُقدَّسًا.. وما كان..

هو من وحداتِ الزمن، لا أكثرَ ولا أقلّ..

والإنسانُ فيه يُخطئ.. وينجح.. ويسقط.. ويقف..

نحنُ نتعلَّم.. ثم يأتي غيرُنا، فيَتعلَّم.. الحياةُ مدرسة.. كلُّ واحدٍ يأخذ منها ما يَتيسّر..

بيْدَ أنّ منظُومتَنا التعليمية، وبطريقتِها المتخلّفة، تزُجّ بنا في غياهبِ الماضي، رغم أن هذا الماضي هو وقتٌ مَيّت..

وتُعلّمُنا أن الحياة هي هذه، بين جُدران أربعة.. وألاّ آُفُق، ولا سعادةَ في غيرِها..

وأن نبقَى كما نحن، حتى بعَقلِنا، وكيانِنا، وأحلامِنا، داخلَ نفسِ السياج..

وأن نَتحوّلَ من بشر، لهم حقُّ استنشاق الحياة، وعِناقِ الحُريةِ والطموح، واحتضانِ المستقبل، وقَبَولِ السعادة، إلى حياةٍ أخرى ما هي بحياة.. وإذا كانت، فحياةُ مُعتقَلين بلا حدود، في سياج الماضي..

ورغم أن هذا الماضي انتهَى، ما زالت مَدارسُنا ـ بألوانِها وسياساتِها ومَنهجياتِها ـ تتعاملُ معَنا وكأننا آثِمُون، مُذنِبون، نستحق أن نعيش داخلَ سياج الماضي، وأن نكُون عبيدًا لهذا الماضي..

ولا يجوز أن نكون من عبَدَةِ الماضي..

وأن نستعذبَ هذا المعتقَلَ المسمَّى: الماضي..

وأن نُقدّسَ التقاليدَ المتسربةَ إلينا من الماضي..

إننا منذ قرون وقرون، ونحن على امتدادِ أجدادِنا، عبيدٌ ومعتقَلون لأوهامٍ تسربت إلينا من الماضي السحيق..

علّمتنا المدرسةُ كيف نُقدس ونُمجّد كلَّ هذا الماضي..

وألا نُناقشَ ما وصَلنا من الماضي..

وكيف نَتشبثُ بالماضي، فكرا وسلوكا ومنهجيةَ عمل..

حتى حكومتُنا توظفُ وسائلَ الإعلام لكي تُعلّمَنا أن القُدوةَ في حياتِنا، والنموذج هو الماضي..

ونسمعُ في وسائل الإعلام عن السَّلف الصالح..

ولا أحد منا عاشرَ هذا السَّلف، وتَيقّنَ أنه بالفعلِ صالِح..

وإذا افترَضنا أن فيه أشخاصًا صالحين، فهل كلُّ السلفِ صالح؟

وإذا كان صالحا للماضي، فهل هو صالحٌ للحاضر؟

والحكومة تستغلُّ التراثَ التقليدي، بما فيه من خرافات، لكي تَتظاهرَ بأنها وفيّةٌ للماضي..

إنها تتظاهر..

والمظاهرُ خدّاعة..

تُظهِرُ ما لا تُخفي.. ولا تَعتقد.. وهي ليسَت وفيّة..

ونحنُ ليست لنا قُدوة..

الحكومة ليست قُدوة.. والأحزاب والنقابات وغيرُها...

قدوةُ كل واحد منا: عقلُه وضميره..

وهذا العقل وهذا الضمير هما من الحاضر.. موجودان في الحاضر.. من بَناتِ وأبناءِ الحاضر.. وليس في تخيُّلات ماضية..

الماضي هو الماضي..

وإذا أردنا أن نستفيدَ من الماضي البشري، الحياتي، الطبيعي، فعلينا بوضعِه تحت مرآةِ الحاضر..

وأن نُناقشَ مضامينَ هذا الماضي بعقليةِ الحاضر..

فإذا كان ماضينا صالحًا لوقتِه، فليس بالضرورة أن يكُونَ كلُّه صالحًا لحاضرِنا..

ونستطيعُ أن نُناقش الماضي مُناقشةً تنطلقُ من تطورُّاتِ الحاضر: الحاضرُ نحنُ فيه.. والماضي انتَهَى..

إن الحاضرَ قد تَطوَّر، مقارنةً مع الماضي..

والمستقبلُ سوفَ يتطورُ أكثر..

والعالَمُ ليس راكدا..

الحياةُ مُتحرّكة..

وما كان بالأمس راكدا، وغيرَ معروف، هو اليوم معروفٌ ومتحرك باتجاه الغد..

هذه هي الحياة..

هذه طبيعةُ الحياة..

ومن يَتشبثُ بنُقطة ما في حرَكيةِ الحياة، فإن هذه النقطة كان قبْلَها تخلُّف، وجاء بعدَها تطوُّر.. واليوم نحن مُحاطون بغاباتٍ من المعارف..

وما هو معروفٌ في علوم الحاضر، لم يكن معروفا في الماضي..

وما يَعرفُه طفلٌ من الحاضر، عن كُروية الأرض ـ على سبيل المثال ـ لم يَعرفهُ أكبرُ الفلكيين في عصورٍ غابرة..

الوقتُ يدُور.. ويتَنقلُ إلى وحداتِ زمنيةٍ آخرى..

والعالمُ يتَقدّم في الاختراعات والابتكارات.. وفي خلقِ أفكارٍ جديدةٍ لمواجهةِ إكراهاتِ الحياة، والتنمية البشرية، وتحدياتِ الطقس والطبيعةِ، ومَخاطرِ الفضاءِ والمحيطات...

العلومُ تتطور..

والتكنولوجيا تتقدمُ بسُرعةٍ لم يسبق لها مثيل..

والمعارفُ لا تتوقف..

ومن يُريدُنا أن نبقى حبيسِي الماضي السحيق، هو لا يريدُنا أن نبحثَ أمورَ حياتِنا، وأن نقُومَ بتدبيرِها، بعقلية الحاضر، وتقنياتِ الحاضر، لا بطريقةِ الماضي..

الماضي كانت فيه البغالُ والحميرُ والجِمالُ سيّدةَ الجبالِ والسُّفوح والفيافي والقفار.. واليوم تُوجدُ طائراتٌ وصواريخُ وبَرمائياتٌ وغيرُها من مُنتجات النّانُو...

كلُّ شيء في الحياة قد تغيَّر..

وعلينا أن نتحررَ من عبادةِ الماضي..

ونتحرر من تقديسِ الماضي..

ماضينا فيه، ككُلِّ الأزمنة، غثٌّ وسمين، ومَدٌّ وجَزر..

وليس ماضينا قدوةً لحاضرنا..

الظروفُ تختلف..

والحياةُ غيرُ الحياة..

كلُّ شيء تغيَّر من الماضي إلى الحاضر..

وسيتغيَّر أكثرَ في المسارِ الحياتي، إلى المستقبل..

ولكن علينا ألا ننسى أن في السلوك ما كان في الماضي، ولا زال في الحاضر، وهو التعايشُ والاحترامُ المتبادل والتعاونُ والتضامنُ والتطوُّع، وغيرُ هذه من القيم الإنسانية، شرطَ أن نتحررَ من التعصُّب والتطرف، والاعتقاد الخاطئ بأننا نحنُ وحدَنا على حق، وأن غيرَنا خاطئون..

الجهلُ يُعلّم الخوفَ من الآخر..

والخوفُ يؤدي إلى سوءِ التعامل..

واليوم، وقد مرَّ العالمُ من حروب فتّاكة، نحنُ البشر أحوجُ ـ من أي وقت مضى ـ إلى ثقافةِ السلمِ والأمنِ والأمان..

وهذه القيمُ كانت محدودةً في الماضي السحيق، وهي اليوم تنتشرُ أكثر فأكثر بين شعوبِ العالم..

ولا يُستبعد أن يكون المستقبلُ أحوجَ منّا إلى قيمِ التّسامح والتعايشِ والاحترامِ المتبادل..

وما علينا أن نُوظفه في حياتنا المشتركة هو: هذه القيم التي ترفعُ من مستوى البشرِ إلى مستوى الإنسان، فإلى مستوى أعلى هو: الإنسانية!

ـ كفى من عبادةِ الماضي!

الماضي ليس أفضلَ من غيره من الأزمنة.. كلُّ العصور تطورت وانهارت.. وكلُّ الأمم تقدمت وتخلفت وانهارت..

وحلت محلَّها أممٌ أخرى، وحضاراتٌ أخرى..

والدائرةُ تدور..

وهذا هو منطقُ الحياة.. ومن يُفرّطُ في واجباته، يتقهقر..

ـ كفى من اعتقالِ أنفُسِنا في كمّاشةِ الماضي التاريخي والإيديولوجي.، وهَلُمَّ جرّا...

تعالوا نتعايش في الحاضر..

بسُلوكٍ يَرقَى من إنسان، إلى إنسانية!

 

أحمد إفزارن


 

ifzahmed66@gmail.com