الخطاب السياسي الرسمي تناسى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتواصلة منذ سنوات، واهتم باستحقاق الانتخابات البلدية المقبلة، وفق منطق الهيمنة الانتخابية الذي يشكل خطرا على المسار الديمقراطي التعددي، خاصة إذا ما آل الأمر إلى السيطرة التامة على أجهزة الدولة ومؤسساتها وفق منطق الحزب الواحد. 
وما حدث أنه، يوما بعد يوم، تتقلص الحلول وتنعدم أمام المنحى التصاعدي للأزمة الاقتصادية والمالية، التي تنعكس سلبا على الواقع الاجتماعي لفئات المجتمع الواسعة، وفي المقابل لم تضف الأحزاب الحاكمة شيئا يُذكر في ما يخص القدرات المؤسسية، أو كفاءة التسيير الإداري، عبر تنظيم مهامها وتطوير آلياتها وفق منطق مغاير لواقع الأمس. 
ومع تعزيز الدولة لأجهزتها خارج منطق تشاركي، تغيب الاختيارات الصائبة والمؤطرة نحو ترسيخ نظام اجتماعي وسياسي مستقر يضمن تحقيق الآمال وبناء جمهورية ثانية بنظام سياسي واقتصادي يقطع مع الماضي. ومثل هذا الأداء السياسي المختل الذي أقصى النخب الوطنية الفاعلة، ولم يُشركها في أي اصلاح يُذكر، واكتفى بخطاب مرتجل، لم يستطع احتواء مخاطر العجز المالي والاقتصادي، والصعوبات التي أنهكت قطاعات حيوية كالسياحة والمناجم. 
ومع غياب الاستراتيجية التواصلية والأداء التنفيذي الفاعل، أصبحت الدولة التونسية تخضع عمليا لإملاءات البنك الدولي، وهي في وضع تُوجه مداخيلها  لسداد مصاريف التسيير الإداري، على حساب نفقات استثمارية ممكنة، أو خلاص ما تخلد بذمتها من التزامات مالية ضخمة. ومثل هذا المسار كان سمة سنوات ما بعد 2011، وقد طُبع بركود اقتصادي شامل، خاصة في السنوات الأخيرة، ولم يحدث تحول إيجابي في كل القطاعات المنتجة للقيمة المضافة، الأمر الذي انتهى إلى الاحتجاجات الاجتماعية. فكل المعطيات الصادرة عن البنك المركزي ووزارة المالية أو المعهد الوطني للإحصاء وغيرها، تُشير إلى تراجع مؤشر الانتاج الصناعي وتراجع الايرادات الجبائية، وارتفاع خدمة الدين الخارجي. وقد ازداد الواقع الاقتصادي اختناقا مع ركود النشاط المنجمي وقطاع الطاقة لسنوات، والأمر على حاله إلى أيامنا هذه، فضلا عن تراخي الدولة في إيجاد حل للاقتصاد الموازي، الذي خلق منافسة شرسة للمؤسسات، ينضاف إلى ذلك اختلال الميزان التجاري وتفاقم ظاهرة التوريد العشوائي للمنتجات الصناعية وغيرها، وتآكل القدرة التنافسية لأغلب القطاعات.
ومع تقسيم السلطة وضعف التسيير، وعطب الإدارة وتعطل إجراءاتها، وغياب الاستقرار السياسي، عرف التونسيون  سنوات عجافا بكل ما للكلمة من ثقل دلالي، تراجع فيها الأداء الاقتصادي وتواصلت اخلالاته الثابتة والموروثة، واتضح فشل السياسات الاقتصادية المعتمدة منذ أربع سنوات من حكم التوافق «الدستوري» و»الاسلامي». وقد ازداد الوضع سوءا مع رداءة مشروع الأحزاب الحاكمة المصلحي والفئوي، الذي يخلط بين مطالب الحزب ومطالب الدولة ومطالب المجتمع. وقد أدى خطاب المراهقة السياسية إلى ركود الاقتصاد التونسي وبشّر بأزمة اجتماعية محتملة، واحتقان شعبي حاد انتهى إلى رفع شعارات من قبيل «يا حكومة الالتفاف الشعب يعاني في الأرياف»، «زاد الفقر زاد الجوع يا مواطن يا مقهور».
ومع ذلك مازالت الدولة تُكرس منطقا غير تشاركي في إدارة الشأن العام، وتُثقل كاهل الفئات الكادحة بالضرائب والزيادات في الأسعار لمواد استهلاكية وخدماتية عديدة وتطالبها بالتقشف، عوض أن تُقدم الحلول للمشكلات المجتمعية وتُصوب سياساتها الحكومية، وتقدم شحنة أمل للمهمشين، عبر اعتماد استراتيجية تنموية تحد من التفاوت الجهوي، عوض أن يتم الاختصار على تدخلات محدودة المدى تفتقد الفاعلية التنموية وتهتم بأعراض الأزمة وليس بأسبابها العميقة. ناهيك عن بقاء المخزون ذاته من القوانين الرديئة سارية المفعول، وأهمها منظومة الجباية غير العادلة والتعسف الضريبي على الفئات الضعيفة، مقابل تهرب الأغنياء واستغلالهم لضعف الدولة وفساد منظومتها الإدارية والسياسية التي جرى تصميمها للإقصاء والتغييب، وتغليب مصلحة الأقلية التي تتقاطع مصالحها مع الأطراف الحاكمة على حساب السواد الأعظم من الشعب. 
وأمام مثل هذا الأداء السياسي المختل تبحث الأحزاب الحاكمة المسؤولة عن مثل هذا المسار المخجل، في إمكان مواصلة الحكم عبر الهيمنة على الانتخابات البلدية، ومن بعدها الانتخابات التشريعية والرئاسية، مع مناورة دعائية كاذبة كالمعتاد، تستغل غياب الوعي السياسي الجماهيري وتستمرئ الدولة وأجهزتها. فكيف لمن تسبب في تنامي مشاعر الإحباط وأبقى الوضع الاقتصادي والمعيشي في تونس يراوح مكانه منذ سنوات أن يُخرج البلاد من أوضاعها الخانقة؟ أو يُحدث إصلاحا هيكليا للاقتصاد وللقطاعات المنتجة؟ أو يستبطن إمكان الاقتدار على معالجة عجز الميزان التجاري وميزان الدفوعات والوضع المحرج لميزانية الدولة وتعويم الدينار ومجابهة التضخم، ومراجعة قيمة الواردات والحد من طابعها العشوائي، واستعادة ثقة المستثمر الأجنبي أو التونسي بشكل مستدام؟ أو ضمان استقرار مالي يخفض مستوى التخوف لدى من يراقب الوضع الاقتصادي والسياسي في تونس بما في ذلك وكالات الترقيم السيادي والهيئات الدولية المقرضة؟ والأهم من كل ذلك طمأنة فئات واسعة من مكونات الشعب حول مستقبل البلاد والعباد. 
كاتب تونسي

لطفي العبيدي