النجاح في الكتابة الصحافية، لا يعني بأي حال من الأحوال النجاح على شاشة التلفزيون، ليس صعبا التوصل إلى مثل هذه النتيجة لأن التجربة تكاد تكون مقياسا دقيقا، الأمثلة أكثر مما تحصى في زمن تلفزيوني ضاج وأكبر من قدرة الإنسان المعاصر على المتابعة.

الكتابة تعني صناعة الأفكار وإعادة ترتيب العلائق بين الكلمات، ومثل هذا التعريف لا ينطبق دائما على الحديث المباشر على شاشة التلفزيون.

لكن المشكلة أن التلفزيونات صارت تستعين بكتاب ناجحين في الكتابة الصحافية، لاعتقادها أنها نتيجة نهائية مضمونة لنجاحهم على شاشة التلفزيون. بينما الواقع قاد إلى الفشل وعدم التأثير في أغلب الأحيان. وخسر صحافيون سبق وأن استقطبوا القراء في مقالات وآراء متميزة، من رصيدهم عندما ظهروا على الشاشة بوصفهم مقدمي برامج أو متحدثين، فالقدرة على الكتابة لا تعني دائما نفس القدرة على الكلام أمام العدسات.

كاتب صحافي نجح على مدار سنوات في عمود ناقد ومتهكم ولاذع، لكنه ظهر أشبه بممثل كوميدي على مسرح من دون جمهور عندما حول مقاله إلى مادة تلفزيونية اختار أن يكون برنامجه التلفزيوني بنفس عنوان عموده الصحافي، فالذي نشاهده على الشاشة هو شخص مختلف كليا عما كنا نقرأه لسنوات في الصحيفة.

لقد سبق وأن نجح هذا الكاتب على مر تاريخه الصحافي، لكنه وجه تلفزيوني لا يضيف شيئا، ولغته لا تسعفه عندما يكون أمام العدسة، ثمة تأثير مختلف كليا عن فعل الكتابة. لذلك أتخيله عندما يبتسم مفتعلا ذلك، بأنه يستمع في داخله إلى صفارات الاستياء من قبل المشاهدين، إذا كان هناك حقا الكثير من المشاهدين المستمرين على متابعة حديثه الجامد.

تكمن المشكلة ببساطة، في الصناعة التلفزيونية الرديئة، التلفزيونات تتوالد بإفراط مخيف، بينما الأفكار تتشابه وتتكرر، المقدمون التلفزيونيون يقعون تحت إغراء العدسات، ويهملون المعرفة واللغة وتكوين فكرة جيدة عن المقابل وإطلاق السؤال الجديد، واختيار التعليق الذكي في اللحظة المناسبة.

فكرة المعلم والتلميذ الشائعة في تلفزيوناتنا العربية مثيرة للملل، المحاور التلفزيوني تلميذ جيد الاستماع عندما يتحدث أمامه سياسي بارع أو باحث متميز… ليس لأنه نجيب ويدرك تقاليد الحوار، بل لأنه جاهل ولا يجد من الأسئلة ما يقابل بها الضيف، لذلك يبقى يدور على ما كُتب له من أسئلة حفظها أو قرأها!

اعتَقدَ بعض منتجي المادة التلفزيونية أن الحل يكمن في اختيار كتاب وصحافيين على درجة من الممارسة والمعرفة ليكونوا مقدمي برامج ناجحة، لكن النتيجة كانت مخيبة لآمالهم، لأن التعامل مع العدسة أمر مختلف التأثير عند المشاهد، وليس مثل تأثير المطالعة عند القارئ.

الواقع أن ما تعيشه التلفزيونات العربية في تقديم المحتوى هو شتاء تلفزيوني، ليس فيه من الربيع غير الأضواء، شتاء في لغة الخطاب الركيكة وطريقة تداول المعلومات والدس والتلفيق والتهريج والسخرية من وعي المشاهد، ويصبح الحال أكثر برودة عندما يشترك كبار الصحافيين في صناعة محتوى تلفزيوني رديء!

التحدي الذي يواجه المحطات العربية هو كيفية التنويع والازدهار في الوقت الذي تتعرض فيه وسائل الإعلام التقليدية لضغوط شديدة بفضل انفجار خدمات البث المباشر عبر الإنترنت.

مثلما يتلاعب الاقتصاديون الأشرار الأذكياء بمؤشرات الخوف في البورصة وسوق السندات من أجل أن تمتلئ خزائنهم بأموال الخائفين، صار على منظري الإعلام ابتكار مؤشر معادل للخوف يمكن أن يسموه مؤشر الإزعاج! وهو مؤشر يستهدف مشاهدي التلفزيونات العربية حصرا، لأن مهمة هذه التلفزيونات سواء جهلت ذلك أم لا، القيام بإزعاج المشاهدين إما بتقديم محتوى واهن وساذج أو ملفق وموغل في الأكاذيب، متلازمة التشويش مهمة العدد الأكبر من هذه التلفزيونات.

في الوقت الذي تترصد فيه شركات الإعلام بعضها البعض من أجل الإنفاق على المحتوى المتميز على أمل المزيد من الأرباح، مازالت محطات عربية تعيد تدوير الخطاب السياسي البائد في محاولة بائسة لاختراق العقول في زمن تحرر العقول.

هناك ما يمكن وصفه حرب تلفزيونات على غرار حرب الشوارع، وهي تجري في غرف البيوت والمقاهي العربية، وهذه الحرب لا يوجد فيها قاتل ومقتول، بل فيها أموال تتدفّق على المحطة التلفزيونية الناجية من حرب الشوارع وأخرى تخسر رصيدها، عندما يستخدم المشاهد العربي سلاحه المتمثل بالريموت كنترول، والتركيز على محطة مفضلة، ستجد محطات أخرى أنها تبث لنفسها وهو طريق يقود إلى إغلاقها.

لا يدخل في حرب التلفزيونات العربية إلا من كان في أوج صحته، التلفزيونات المريضة خارج المنافسة ولا تأثير لها وهي تنتظر إغلاقها قبل أن يحين موتها التكنولوجي.

على التلفزيونات العربية أن تعي التهديد القادم إليها من المقاطع الفيديوية التي يقودها جيل احترف تصوير نفسه! وما يحدث حوله بسلاح الهاتف الذكي، يكفي القول إن محطات محترفة تلجأ لهذه المقاطع الشائعة على الإنترنت من أجل صناعة محتوى ليس لها يد فيه.

ثمة درس يمكن تعلمه من الكم الهائل من ساعات البث التلفزيونية، وهو أن كل المزاعم المغلفة بعناية باتت مكشوفة أمام المشاهد العربي، التلفزيونات تبدو عارية مهما ارتدت من ثياب الموضوعية وزينت صورها بمكياج المهنية.

 

كرم نعمة