مازالت سلسلة قرارات محكمة العدل الأوروبية تستمر في إحراج الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، خصوصا الحليفة منها للمغرب، ربما قد يكون الدافع في ذلك الخضوع لمنطق روح ديمقراطية المؤسسات بالقارة العجوز، ومبدأ استقلالية القضاء، أو نابعا من إستراتيجية لعب الأدوار، من أجل الضغط على الدول وإخضاعها للمساومة والتخلي عن حقوقها، والقبول بشروطها لنيل المكاسب على مختلف الجبهات.

في هذا السياق، أصدرت محكمة العدل الأوروبية في أواخر شهر فبراير من السنة الجارية قرارا قضائيا يعتبر أن اتفاق الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي غير قابل للتطبيق ولا يشمل مياه الأقاليم الجنوبية للمملكة، هذه القرارات أضحت غير مفاجئة في الآونة الأخيرة، نظرا لصدور قرار مشابه من المحكمة نفسها في دجنبر 2016 يهم اتفاقية الفلاحة بين المغرب والاتحاد الأوروبي، ولا نعلم على ماذا سيأتي الدور في المرحلة المقبلة.

من المفارقات الصارخة أن تتعبأ بعض جمعيات المجتمع المدني في ابريطانيا لتناصر جبهة البوليساريو الانفصالية في المحاكم الأوروبية، ولا تناصر باقي الحركات الانفصالية من بني جلدتها المتواجدة في قلب أوروبا (كاطالونيا، كورسيكا، الباسك، اسكتلندا، الفلاندرز... نموذجا)، مما يطرح تساؤلات عديدة حول أهدافها وغاياتها الحقيقية.

إذا كان المغرب ومعه بعض دول أعضاء الاتحاد الأوروبي، التي تربطها مصالح حيوية مع المملكة، يعتبران أن هذا القرار غير ملزم لهما، فإنه يمثل صفعة موجعة للدبلوماسية المغربية، لكونه يصدر للمرة الثانية من محكمة العدل الأوروبية. وبالتالي، وأمام ضعف رد فعل الجانب المغربي في المرة الأولى التي مست بالاتفاق الفلاحي، واستمرار علاقات الشراكة بشكل عاد، فإن الأوربيين فهموا أن المغرب غير قادر على الذهاب بعيدا في مواقفه.

بدأ يظهر بجلاء أن المغرب بالإضافة إلى اهتماماته بالعمق الأفريقي، مطالب بتوجيه بوصلته أكثر فأكثر صوب دول الاتحاد الأوروبي، لأنه لم يعد قلعة محصنة كما في السابق، بل أضحت بعض جمعيات المجتمع المدني، ومعها بعض المنظمات غير الحكومية تتعاطف أكثر فأكثر مع قضية جبهة البوليساريو الانفصالية.

المغرب مازال يعول على حلفائه التقليديين، المتواجدين على الواجهة المتوسطية، أبرزهم فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، الذين تربطهم مصالح مباشرة مع المملكة، أبرزها ملف الهجرة، حيث يباركون في أكثر من مناسبة دور المغرب الحاسم في صد جموع المهاجرين النازحين من مختلف بلدان أفريقيا، خصوصا أن ازدياد وصول المهاجرين إلى أوروبا زاد من مخاوف الأوروبيين من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة الذي يلعب على وتر الهوية الوطنية.

الاتحاد الأوروبي ليس هو دول الواقعة على الضفة المتوسطية، بل هو أوروبا الشرقية وأوروبا الإسكندنافية والأنجلوساكسونية، التي تنشط فيها بشكل كبير الجمعيات الحقوقية.

تداعيات هذا القرار يمكن أن تستغلها دول وحكومات معادية، لتنقل معاركها إلى القضاء، وكان أبرزها احتجاز الباخرة المغربية المحملة بالفوسفاط بإحدى موانئ جنوب أفريقيا، وقد تعقبها قرارات مماثلة إذا ما رمت هذه الدول المعادية بثقلها في مواجهة المغرب، حيث بالمناسبة فإن الفوسفاط مقبل على محن وفترات صعبة، بعد تصويت البرلمان الأوروبي على منع استيراد الفوسفاط المغربي ومشتقاته بسبب مادة الكادميوم، التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي من المواد السامة الملوثة للأرض والتربة.

من جهة أخرى، دخول ملف هذه القضية للأشواط القضائية قد يؤثر على وتيرة الاستثمارات الدولية في المغرب، ويؤدي إلى تخوف كبريات الشركات والمؤسسات الدولية من استثمار أموالها في منطقة تعرف صراعات مستمرة بين الأطراف المتنازعة وما زال مصيرها معلقا في يد أجهزة منظمة الأمم المتحدة.

قد يتنفس الصيادون المغاربة الصعداء في حالة إلغاء اتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي، وانسحاب زهاء 120 سفينة صيد أوروبية من المياه المغربية، التي تمكنها من صيد آلاف الأطنان من الأسماك، ومعهم المواطنين المغاربة، لعل ذلك يساهم في رؤية مختلف أنواع الأسماك على موائد وجباتهم بأثمنة مناسبة.

في المقابل، سينزل الصيادون الإسبان المنتمون لأقاليم أندلوسيا وغاليسيا وجزر الكناري بكل ثقلهم للضغط على حكومتهم، قصد التصدي لقرار محكمة العدل الأوروبية، وبالتالي الاستمرار في اتفاقية الصيد البحري مع المغرب، أو بتهديد وصول الصادرات المغربية الفلاحية إلى دول الاتحاد الأوروبي، في حالة رفض المغرب تجديد الاتفاقية، التي يبدو أن عائداتها المالية الممنوحة للمملكة لا توازي قيمة الثروات السمكية المصطادة، وتأثيراتها على التوازن البيئي البحري، بل هي تأتي فقط لإرضاء بعض الأطراف الأوروبية، وكسب دعمها في ملفات سياسية أخرى.

من المفروض أن يقوم المغرب برد فعل حازم، ما دامت قضية الوحدة الترابية من ثوابت المملكة دستوريا، وتم المساس بحرمتها، وبعث رسالة واضحة على استعداد المغرب إلى مراجعة شراكته مع الاتحاد الأوروبي، والبحث عن بدائل جديدة، من خلال الانفتاح على قوى دولية وإقليمية أخرى، من قبيل الصين وروسيا وتركيا، أو الدخول في اتفاقيات ثنائية للصيد البحري بين الدول التي تشترك معه في مصالح حيوية.

لكن المتتبع للأحداث الجارية، والعارف بطبيعة سلوك الديبلوماسية المغربية، يدرك أن سياسة المهادنة هي الخيار الذي يلجأ إليه المغرب في تعامله مع الاتحاد الأوروبي، وقد يرجع ذلك إلى اختلال توازن القوى بين اتحاد أوروبي يضم مجموعة من الدول القوية، وبين دولة وحيدة لا تستند إلى تكتل إقليمي يشد عضدها في النوائب والأزمات، وإلى انشغال دول الخليج بالصراع الدائر فيما بين الأعضاء المشكلين لمجلس التعاون الخليجي، أكثر من الانشغال بدعم قضايا دول أخرى صديقة.

إن استمرار طول أمد قضية الصحراء المغربية سيزيد في تعقيد الوضع الإقليمي بالمنطقة، خصوصا في ظل التطورات الأخيرة التي يحاول من خلالها المبعوث الأممي هورست كوهلر إقحام منظمة الاتحاد الأفريقي في الصراع، وكأنه استغل عودة المغرب إلى تلك المنظمة لإشراكها في هذه القضية، وهو شيء ترفضه المملكة التي تتشبث بحل الحكم الذاتي كسقف محوري في أية تسوية سياسية للملف المفتعل.

محسن زردان

*كاتب وباحث