الظاهرة الإشكالية

تعج الأسر المغربية بقصص تراجيدية تخص آباء ؛ أفنوا أعمارهم في بناء أسر ، وضحوا بالغالي والنفيس في تنشئة أبنائهم وتوفير العيش الكريم أو تخليصهم من براثن الفقر والزمانة ... لكنهم ؛ ما أن تقدم بهم العمر حتى وجدوا أنفسهم منبوذين و"عالة" على أبنائهم ... وكم من أبناء تنكروا لأيادي آبائهم وجحدوا بآلائهم ؛ منهم من انتهت به أيامه داخل "خيريات" ومنهم من تجرع مرارة آلام الماضي فانتهى بئيسا معدما .. ومنهم من لفظه الزمان إلى الشارع فاستعطفه للتعجيل بأجله ..

فهل انتفت القيم الأخلاقية الأسرية المغربية إلى هذه الدرجة ..؟ وهل البرور بالوالدين يقع فقط زمن الصبا حالما تكون جيوب الآباء ممتلئة و ينتهي بكبر الأبناء واستقلاليتهم عن الأسرة الأم ؟!

حالة للدراسة

تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي وحكايا سارت بها الركبان .. صورا لآباء تنكر لهم أبناؤهم . وسنحاول فيما يلي اعتماد حالة منها وإخضاعها للتحليل :

عبد القادرأشرقي أب لثلاثة أبناء

اشتهر أشرقي ؛ في المدينة وبين سكان الحي ؛ كمثال للحيوية والكد والعمل الدؤوب ...ليوفر سكنا لائقا لأسرته الصغيرة ويشمل بحدبه وعطفه أبناءه الثلاثة ؛ سليم وزكرياء وعمر ؛ فحرص على استكمال دراستهم حتى ولو اضطره ذلك إلى الانتقال إلى العاصمة وتحقيق حلمه في أن يرى "مدينة العرفان" تحتضنهم من بين طلابها .

كان يشتغل تاجرا لمواد الجملة ، عدا امتلاكه لضيعة لتربية الأبقار والتعاطي لبيعها ـ عبر وكلاء له ـ في العديد من الأسواق القروية . فتجمع له من ذلك مال وفير ؛ أنفق بعضه على أبنائه الذين انتهى بهم مسار الدراسة إلى وظائف عمومية ؛ لم يكن يراها بالكافية في تأمين حياة سعيدة فخص كلا منهم بسكن وسيارة من ماله الخاص .. تزوجوا وعاشوا في بحبوحة ؛ وكانوا بين الحين والآخر يقصدون أباهم في طلبات أو تسديد نفقات ما ... فلا يتوانى في الاستجابة لها بصدر ملؤه الغبطة والانشراح .

توفيت الأم .. ولاحظ أشرقي أن نشاطه بدا يفتر ويتضاءل وصحته بدأ يدب إليها الاعتلال والهوان .. فعنّت له فكرة توزيع ثروته على أبنائه والإقامة مع ابنه الأكبر ليقضي بقية عمره مستريحا من عناء الحياة . وبعد مدة قصيرة من إقامته الجديدة ، ضاقت زوجة ابنه ذرعا بخدماته وحاجياته ولم تعد تطيقها ... فاجتمع الإخوة الثلاثة وتداولوا في أمر إقامة والدهم ، وأنه ليس من "العدل" في شيء التضحية من طرف واحد ... فاهتدوا إلى "برنامج" استضافة الأب بالتناوب .

وفي يوم من الأيام ؛ وبينما كان منزويا في غرفته إذا بصوت حاد يحمل وقع احتجاج وتذمر ينتهي إلى مسامعه " ... فوقاشْ هدا الكيدارْ ازيدْ خلْفا عْلينا ...؟ !.." وعند سماعه بكلمة "الكيدارْ" طفق الأب يبكي .. وأغرق فيه إلى الحد الحشرجة أشبه بالطفل ... خرج من المنزل هائما في الشوارع والطرقات لا يلوي على شيء ... صادف أن قابله أحد أصدقائه القدامى وكان قاضيا ، سأله عما ألم به حتى يبدو متورم العينين حمراوين على غير عادته ... فبث إليه حزنه وقال له " .. ماذا يقول القاضي في نازلة ابن يرمي والده "بالكيدار" ؟..."

بادر القاضي من فوره باستدعاء الأبناء الثلاثة وحقق معهم الواحد تلو الآخر " من كفلكم ؛ من رباكم ؛ من أنفق عليكم ؛ من خصكم بكل ما تمتلكونه ؛ من ؛ من ؛ ؟؟؟ " أخيرا ولما تحقق بأن الأبناء اعترفوا لأبيهم بكل الآلاء والنعم أصدر إليهم أمر التعجيل باقتناء سكن بالمواصفات التي ترضي والدهم مع إيداع مبلغ مالي شهري في حسابه البنكي لتغطية كل حاجياته ... وأن أي تقصير أو تهاون منهم في هذا المسعى سيعرضهم للعقوبات التي ينص عليها التزامهم ووفاؤهم بذلك ..

نصح له أحد الأصدقاء فيما بعد بالبحث عن امرأة تقوم على شؤونه الصحية والمنزلية .... ولما تقدم به السن وأشرف على الهرم دعاها أمام القاضي للقبول والإشهاد كزوجة له رغم تقدمها في العمر ...

لكن وقع أن توفي الأب أشرقي فتقدم أبناؤه لهفا وطمعا على تركته من المنزل والرصيد البنكي ولمّا لم يمض على وفاته سوى بضعة أيام ! إلا أن ظنونهم خابت لما علموا بوجود الوارث الشرعي الوحيد الذي أوكل له أبوهم كل شيء في حياته !!

دراسة حالة الأب أشرقي

لدى دراسة هذه الحالة تستوقفنا عدة مداخل ؛ يمكن اعتبارها رافعات ومساند لوضعية الأب أشرقي ، فلولاها لكان قد انتهى به المطاف إلى قارعة الطريق مثل كثير من الحالات التي لم يتدخل القضاء في حسمها لشعور الآباء بالخجل ووخز الضمير وهم يلاحقون أبناءهم أمام المحاكم ، بيد أن عامل "زوجة الإبن" كثيرا ما يرد عنصر تشويش وشيطنة لعلاقة الابن بوالده .وقد نصل إلى موقف آخر يقول بتسرع الأب في نفض يده من ممتلكاته وإيداعها بأيدي أبنائه مما جعله يعيش بينهم "كعالة" أو "ضيفا ثقيلا" ... وفي هذا السياق نلفي أنفسنا أمام سيل جارف من الأمثال الشعبية تم توليدها وتداولها من طرف شريحة واسعة من الآباء ضحايا أبنائهم " منْ بكْري دقْ الاوتادْ ولا تّيق فالاولادْ .." ؛ " .. رادْ بالك من صْلابك واخّا يْكونْو وْلاداكْ " وقديما قيل " الأقارب عقارب "

وهناك موقف ثالث يتساءل أصحابه : " ... ماذا كان سيكون عليه مآل أشرقي لو لم يكن ذا مال ؟" فقد سيكون مصيره الانزواء بإحدى المؤسسات الإحسانية "الخيرية" أو القبول بالأمر الواقع والعيش كيفما اتفق له وسط هؤلاء الأبناء .

وفي ختام هذا التحليل البسيط لا يمكن بحال أن نتجاهل البنت ودورها في البرور بأبيها ... فقد دلت كثير من الدراسات الاستقصائية على أن البنت وسط الإخوة والأخوات هي أكثر عنصر حنوّ في القرب من أبيها دون بقية الإخوة الذكور ؛ وهذا يحمل على الاعتقاد بأن بعض الآباء يخص بناته بعطف زائد على بقية أبنائهم ... ومنهم من يُفْردوهنّ بميراث وهم ما زالوا على قيد الحياة .



عبد اللطيف مجدوب