لقد قمت بطرح سؤال عن الذات بصيغة النحن؛ لكي أختفي وراءه وأكون كما قال ديكارت سعيدا بالاختفاء.. "عاش سعيدا من أحسن الاختفاء /ديكارت/".. فلست أرغب هاهنا بأن أفْصح لك عن السبب الحقيقي الذي يجعلني أحمل القلم وأكتب، لكنني سأحكي لك عن السبب الذي يجعلنا نكتب..هذا إن استطعت طبعا أن أجمع كل الآراء في مقال واحد.

إن الغاية من وراء الكتابة تختلف تماما عن الغاية من وراء الاختراع؛ فالمخترع يلبي حاجة ويطور وسيلة من أجل جعل الحياة البشرية أسهل؛ فهو والتقني سِيان يتسابقان من أجل إحراز السبق العلمي، الذي يجعل من الوسائل والآليات أكثر فعالية وأكثر تطورا. أما الكاتب فلا يضيف شيئا ولا ينقص شيئا، إنه كائن سالب لا يفعل شيئا غير الثرثرة؛ فالحياة الإنسانية تسير وفق قدر عبثي تحكمه تقنية محايدة عمياء وتضارب صُدفي للسّلط يجعل مصير البشرية بين يدي رغبات وأهواء بشر يتربعون عرش ملك الموت، الحديث هنا عن الحكام وقراراتهم اللامنطقية، والتي تقود العالم إلى اللاوجهة.

إن الكاتب والفيلسوف والأديب والفقيه ما هم إلا عجائز يقومون بذكر حكاياتهم ويعملون على تخليد أحداث وأقوال وحكم وأفكار، لكن الواقع لا يعبأ بها ولا بغيرها، فالواقع عبثي ولا وجهة له. إذن ففعل الكتابة الذي قام به الإنسان منذ الأزل إلى اليوم هو فعل سالِب لا معنى له، بل إنه فعل ضعيف، إذ يكتفي فقط بحكي الأحداث ولا قدرة له للانخراط في صناعتها. إن المثقف شبيه بالكلب الذي ينبح مُنَبها عن مرور القافلة التي يقودها إله الموت. إذن فلا غاية عظيمة من وراء فعل الكتابة؛ لكن هناك أهداف بسيطة يبتغيها الكاتب تكون وراء الفعل.

يَكمن الهدف الأول في نظري، وهو هدف يكون مشتركا بين أناس اعتبروا القلم منقذا لهم ومعبرا عن آمالهم وأحلامهم، يكونون في الغالب مبدئيين لكن أغبياء كذلك، فهم يظنون أن دفاعهم عن فكرة ما أو عقيدة معينة يجعل من كتابتهم فعلا مقدسا، كما لو أن العالم يهتز لِأحرفهم، وعرش الرحمان يتزعزع لخطابتهم. لكن ما يجهله هؤلاء المبدئيين، والذين يوجدون في كل التيارات "إسلامية وماركسية ومخزنية و... "، أن كتاباتهم وأحرفهم تدافع عن فكرة يظنّونها فكرة شمولية صالحة لكل زمان ومكان؛ لكنها في حقيقة الأمر فكرة نسبية صالحة لزمانهم ومكانهم المحدود، والذي ينتمون إليه.

إن المبدئية شيء رائع، لكنها تعمي صاحبها فيصبح معها مجرد بوق يبرر دون نقد ويدافع دون تبصر.

أما الهدف الثاني في نظري فيكمن في البحث عن الشهرة والتباهي بصفة المثقف، والتي تعطي للفرد قيمة مجتمعية؛ إذ يصبح مشارًا له بالبَنان. وأمثال هؤلاء تجدهم يكتبون بدون رسالة، الأهم أن تكون لكتابتهم قافية ممتعة ويكون لمقالهم صدى في الأوساط الثقافية. وهذا الهدف مشروع، لكن ما يعاب أصحابه هو تشدّقهم بالمبدئية والراديكالية، في حين أنهم يجلسون بكل أريحية على كراسيهم يكتبون حول المعاناة أو المآسي التي تعاني منها فئة لا تقرأ لهم أصلا ولا يصلها من جراء كتابتهم أي نفع. إذن فأصحاب هذا الهدف يجب أن يكونوا صادقين مع الناس ومع ذواتهم وينزعون عنهم صفة المبدئية، فغايته كما قال محمد رسول الإسلام أن يشار له بالبنان، وأن يقول الناس عنه إنه مثقف.

ويرتبط الهدف الثالث بالربح، وهؤلاء يجعلون من قلمهم وسيلة لكسب الرزق، وهو مطلب مشروع، فلا شيء في الوجود بدون مقابل، بل إن الذي يعتبر المال مسألة ثانوية فليعش بدونه ويعطي ما في جيبه لأول شخص يلتقي به في الطريق. لكن الإشكال أن يكون المال هو المسيطر؛ فتجد صاحب القلم متملقا انتهازيا يكتب عن فلان وعلان من أجل أن "يَرشّه" بقليل من المال؛ فالكتابة لا يمكنها أن تغنيك، ولكن يمكنها أن تسترك من البرد، لكن الفضيحة هي أن تسترك من البرد وتعري عورتك وتجعلك عاهرة بقلمك تتجمّل لكل معطاء كريم.

أما الهدف الرابع والأخير في نظري فغايته تتجاوز المال واللقب والمبدأ. إن الكتابة هي هروب من بؤس الحياة وضجر الزمن؛ فالكاتب هاهنا يتسلى بشيء؛ يجعله معنى حياته التي لا تختلف عن حياة أي إنسان.

"الإنسان حيوان تافه"، فالكاتب هو إنسان كذلك يعيش حياة تافهة مِلؤها مشاكل لا تنتهي، ومن أجل أن يهرب قليلا من وطأة هذه المشاكل وضحالتها يلجأ إلى الكتابة كفعل يخلق من خلاله معنى حياته. إن الحياة كما قال شوبنهاور تترنّح بين الألم والملل؛ ولا شيء يمكن أن ينجي الإنسان من ألم المتاعب وألم الملل؛ إلا كتابة أحرف وتشاركها مع قراء يهربون هم كذلك من بؤس الحياة.

إن الكتابة فعل تافه لا يقدم ولا يؤخر شيئا؛ وهو فعل لا يُساعد البئيس في شيء ولا يُعين المظلوم بشيء، ولكنه يخلد البؤس ويصور الظلم فحسب. لكن الكتابة تبقى المنفذ والمهرب من بؤس الحياة وضجرها.

ازلماط نورالدين