كثيرة هي التقارير الوطنية والإقليمية والدولية التي تتحدث عن القراءة، باعتبارها أهم معيار على سلم تنمية الشعوب ودلالة على رقيها. فلا غرابة أن نجد الأمم المتقدمة هي الأمم التي تتصدر سنويا معدلات القراءة، سواء بما تنتجه من كتب (العالم العربي ينشر حوالي 1650 كتابا سنويا، بينما تنشر الولايات المتحدة وحدها 85 ألف كتاب سنويا)، أو بما تصدره من مجلات في مختلف المجالات، وجرائد صباحية ومسائية، أو بما تترجمه من اللغات الأخرى إلى لغاتها السائدة، أو بما يستهلكه الفرد من هذه الكتب (نصيب كل مليون عربي لا يتجاوز 30 كتابا، مقابل 854 كتابا لكل مليون أوروبي). نسب مهولة مقارنة بأمة يقال عنها "أمة اقرأ"، ويفتخر وعاظها من على المنابر بأننا خير أمة أخرجت للناس.

المثير والأغرب أنه في الوقت الذي يقر الجميع بكارثية النسب القرائية في الوطن العربي، ويتم استنكارها والسخرية منها والتحسر على واقعنا القرائي المأزوم، وأننا نحن العرب مجتمعين بحوالي 360م نسمة لم نترجم منذ العصر العباسي إلى اليوم ما تترجمه دولة كإسبانيا في السنة الواحدة. وماذا بعد التوصيف المخزي والكارثي بكل المقاييس؟ فتغييب هذا السؤال في حد ذاته يطرح أكثر من سؤال ويضع أكثر من علامة استفهام، كفة المؤامرة مهما تنكرنا لها، وذلك بأن الوقوف بشأن معدل القراءة في الوطن العربي عند حد التباكي دون تجاوزه إلى القيام بمبادرات جادة من شأنها تقليص الهوة الصارخة بيننا وبين غيرنا هو عن سبق إصرار وترصد. وإن كان العكس فما الذي تقوم به جمعيات المجتمع المدني المعنية مباشرة بالقراءة والكتاب في مجال رفع عار تدني المستوى القرائي الذي يصل إلى ربع صفحة للفرد العربي سنويا مقارنة بعشرات الكتب بالنسبة للمواطن الغربي، أو دقائق معدودة على رؤوس الأصابع (6 دقائق) مقارنة بالأوربيين (معدل 200 ساعة سنويا) صناع التكنولوجيا المعلوماتية وروادها، التي يتبجح بعضنا بالقول بأن زمن الكتاب قد ولى بغير رجعة، وأنه رفع الراية البيضاء أمام الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي؟ ما الذي فعلوه أكثر من الفرقعات الإعلامية هنا وهناك ونشر الغسيل الداخلي على صفحات الجرائد عند الاختلاف حول الامتيازات أو السفريات أو عضوية بعض المؤسسات حيث ماءها ومرعاها.

إذا كان هذا حال هذه الهيئات المفروض فيها أنها تضم النخبة القارئة، التي تعرف جيدا أهمية القراءة ودورها الأساس في حياة الأفراد والمجتمعات، ويؤرقها وضع القراءة المزري في وطننا العربي، فما هي مبادراتها الجدية لحلحلة هذه المعضلة القرائية؟ أم هي أيضا منخرطة فيما يروج من أن انتشار القراءة وتحسين مستواها لدى المواطنين من شأنه أن يهدد النخب المجتمعية المرفهة في مصالحها، على اعتبار أن القراءة مرادفة للتحرر، ومرادفة للوعي بالحقوق والمطالبة بها، ومرادفة للممارسة السياسية الفعلية وليست سياسة الواجهة، ومرادفة لخلق مجتمع مدني قوي يعرف جيدا حقوقه بقدر معرفته لواجباته، ويعرف جيدا كيف يحاسب سياسييه في المحطات الانتخابية بتزكية النزهاء وتسفيه أحلام تجار السياسة ممن يراكمون الثروات على ظهور البسطاء، ويعودون كل موسم انتخابي يستجدون ودهم وكأن شيئا لم يقع.

بالقراءة يرقى المواطن ليمارس صلاحياته كاملة في مراقبة عمل الحكومة والمعارضة على حد سواء. والقراءة أيضا مرادفة لتنمية الحس النقدي لدى القارئ، ومرادفة للتفكير العقلاني لدى المواطن يؤهله لكي لا يكون لقمة سائغة في فم أي أحد سواء كان من دهاقنة السياسة، أو حيتان الثروة الكبار، أو تجار الدين ممن يحرفون الكلم عن مواضعه، ليبقى الدين أشكالا وأسمالا ودروشة وشعوذة ودجلا، حتى إن المغلوب على أمره ممن لا يقرأ أو إذا قرأ فقراءته محدودة يعيش حياته بأنهرها ولياليها بين الجزع والهلع من الجن أن يمسه إن هو صب ماء مغلى في أحد مجاري المياه، وبين الاعتقاد في بركة الأموات وأن فيهم من يشفي العليل من الأسقام، ومنهم من يرزق الذرية، ومنهم من يدفع البلية، وهلم معتقدات يروج لها ممارسوها بما أنها أقصر السبل للاغتناء، وكذا الخوف من أشعة الليزر لدى البعض ممن يعتقدون بأن العين تدخل الرجل مفتول العضلات إلى القبر والجمل الضخم إلى القِدْر. فأين هم هؤلاء؟ ولم لا يتم تجميعهم في قلاع محصنة وتقوية قدراتهم التدميرية وتمكينهم من التلسكوبات لتسخيرهم في الذود عن حياض الأمة كلما ادلهمت عليها الخطوب؟.

فهل هؤلاء وغيرهم من المرتزقة والانتهازيين في مصلحتهم أن يصبح المجتمع قارئا، ومن ثمة واعيا، وبعدها ناقدا يستحيل على أي كان اقتياده مغمض العينين يردد ببغائية الشعارات دون تمحيص؟ وهل في مصلحة صناع القرار أن يتحول المواطن إلى قارئ نهم، فيقرأ المقالة بتمعن وروية فيميز غثها من سمينها، ويقرأ الكتاب في العلوم القانونية ليعرف ما له وما عليه ويعرف ما يروج حوله وطنيا وإقليميا ودوليا، ويقرأ الكتب في علم الاجتماع التي تفسر الظواهر الاجتماعية، وتكشف عن الميكانيزمات المتحكمة في اشتغال عجلات المجتمعات وكيفية دوران دواليب الحركات الاجتماعية، وتشرح ما بين السلطة والدين والسياسة من علاقات؟ وهل في مصلحتهم أن يقرأ المواطن العربي منتسكيو، الفيلسوف الفرنسي صاحب نظرية فصل السلط الذي تعتمده غالبية الأنظمة حاليا؟ وهل في صالحهم أن يطلع المواطن على تراث فولتير الذي عاش خلال عصر التنوير، وعرف بنقده الساخر ودفاعه المستميت عن الحريات المدنية، وخاصة حرية العقيدة والمساواة والكرامة؟.

وهل في مصلحتهم أن يقرأ المواطن كتاب الأمير الذي أثار ضجة كبيرة في زمانه ومنع من النشر إلا بعد موت صاحبه بسبب جرأة أفكاره؟ وهل في مصلحتهم أن يقرأ المواطن العربي الكوجيتو الديكارتي المعروف بشعاره "أنا أشك إذا أنا موجود" وقبله أبو حامد الغزالي بقوله "من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى".

وهل في مصلحتهم أن يقرأ المواطن ويدرك بواطن أشعار محمود درويش وأحمد مطر ومعروف الرصافي ومظفر النواب الذي لا مناص لنا اليوم من استرجاع قصيدته الشهيرة "القدس عروس عروبتكم"، وأبو القاسم الشابي وقصيدته الخالدة "إرادة الحياة" ملهمة ثورات الربيع الديمقراطي المجهضة وانتفاضات الكرامة، وغيرهم من الشعراء يضيق المقام بذكرهم أجمعين؟ وهل في مصلحتهم أن يكون المواطن قارئا متمكنا من آليات القراءة المتبصرة ليقرأ الدين بتجرد تام بعيدا عن أي تأثير أو أي استغلال سياسي من أي طرف كان؟ وبالجملة فالقراءة بما أنها لا تصب في مصلحة أي واحد من هؤلاء، فستظل شعارا تلوكه الألسن من أجل الدعاية فقط، وسنظل في ذيل القائمة نُقاد كما يُقاد أي مخلوق فاقد للعقل والإدراك، إلى إشعار آخر لما تصدق الإرادات، فتعمد لترسيخ فعل القراءة منذ التعليم الأولي إلى بقية الأسلاك، وتضاعف الجهود للقضاء المبرم على كارثة الأمية التي لا تزال تسحق عشرات الملايين في الوطن العربي، وكذا انخراط الأسرة والإعلام الهادف في نشر الوعي بأهمية القراءة بما أنها أساس أي تنمية بشرية.


بوسلهام عميمر