مساهمة في بناء نموذج تنموي جديد- (1)

من أين الحرص على إنتاج الفشل؟

من أين نبدأ في بناء إستراتيجية تنموية جديدة في المغرب؛ ما دام الجميع قد اقتنع بأن كل الحوامل التنموية، منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، استكملت دورتها، ولا يمكن معاودتها، كما هي، لثبوت فشلها؟

بل لم تعد صالحة إلا للثورة عليها؛ حتى نفارقها كلية، ونمضي في غير مسارها.

ان كان هناك من نجاح لما اعتمدناه إلى حد الآن فهو هذا الذي يحرضنا على القول:

لا، هذا غير كاف. إن للمغرب من المؤهلات ما يمكن أن يدفعه صوب مراق تنموية أسمى.

طبعا للتنمية حوامل كثيرة، وأذرع متعددة، واشتغالات متقاطعة، تتأسس على الاقتصادي، لكن لتتجاوزه إلى التربوي، القيمي، السياسي، الثقافي، الاجتماعي، القانوني..ففي النهاية هي تنمية متكاملة للإنسان المغربي؛ هذا الذي يجاور الحضارة –النموذج- بمقدار مرمى حجر؛ ويستنهضه زخم العولمة ليكون في الموعد.

وهو الإنسان الذي يقبع، في أزمنتنا الحديثة، دون تاريخه الرائع، وجغرافيته الآخذة في التآكل؛ منذ قرون:

من الامبراطورية التي فاضت شرقا وشمالا وجنوبا، إلى دولة تحاول الحداثة، وتصارع غطرسة الجار - فقط - من أجل استصفاء حدودها الحديثة.

وعليه فبناء نموذج تنموي جديد يجب أن ينطلق من تفكيك الفشل، وفهمه فهما علميا؛ لتأسيس العمل السياسي المتعدد - وهو شرط الديمقراطية - على معطيات بحثية علمية، مكتملة التمحيص.

العقل السياسي الحالي متهم:

حتى الأداء السياسي، في بناء النموذج التنموي الجديد، يجب أن يُعاد فيه النظر؛ فمنذ الاستقلال والأحزاب والحكومات تمارس السياسة "الحافية"، التي تهمش كل تراكمات البحث العلمي؛ لكي لا تُحَكِّم غير الصدمات؛ وقد توالت حتى في القطاعات الإستراتيجية:

بمعنى أن العامل المتحكم في بناء وتعديل البرامج السياسية، والأداء الحكومي، يقع خارج المعمول به في الأنظمة الديمقراطية؛ حيث الاعتماد على المراكز العلمية، ومؤسسات صنع القرار.

حينما يفضي البحث العلمي بما لديه تبدأ السياسة؛ هكذا تشتغل دول الحضارة الحديثة.

ان عشرات السنين من ارتجال التنمية صنعت الفقر والفساد صنعا؛ كما كرست الريع والإفلات من المحاسبة؛ حتى أطمعت كل من هب ودب في السياسة والسلطة.

أمام هذا الوضع لم يكن غريبا أن تتعاقب علينا برلمانات ولَجَها حتى من لم يَلِج أبدا صفوف الدراسة، ولا حتى الحياة العادية، العفيفة والشريفة؛ وأولج فيها من بناته وبنيه وعشيرته، مثنى وثلاث ورباع.

لقد شاهدنا جميعا برلمانيات "الحالة المدنية" الواحدة (بالحنة والزواق).

ونعرف عائلات يجري فيها التمثيل النيابي للأمة مجرى الإرث العقاري: يحوزون عقار البرلمان لهم، ولمن تناسل منهم. العقار فقط، وريعه، دون صداع الرأس.

وهذا طبعا من فساد الأحزاب، والاستهانة بتمثيل المواطنين، واعتبار النيابة البرلمانية تشريفا، وترخيصا مفتوحا للإثراء والإفساد. وذا طبعا لا يغمط المخلصين المجدين حقهم في الثناء هنا.

ولم يكن غريبا، أيضا، أن تتعاقب علينا حكومات من الموظفين السامين الضعفاء، وليس الوزراء الأقوياء ببرامج أحزابهم، المنصهرة في البرنامج الحكومي المعتمد؛ الممتشقين لاستقالاتهم النضالية، تحسبا لكل طارئ يعرقل عملهم.

ألم يطالبهم حتى ملك البلاد بإعمال الاستقالة، أن صح الضغط عليهم، بدل التباكي المنافق؟.

ومن هنا لا يمكن لنفس العقل السياسي الذي اشتغلنا به منذ فجر الاستقلال، واستنفذ كل أغراضه - إن كانت له أغراض- أن يبدع نموذجا تنمويا جديدا يستجيب لكل متطلبات أجيال الخصاص المضطرد، في كل شيء؛ والذي تتسع دائرته، باضطراد الوفرة، وما يتراكم من وسائل العيش المرفه المتاح للقلة فقط.

ولا يمكن لهذا العقل أن يستجيب لكل الطموح المعبر عنه من طرف أعلى سلطة في البلاد؛ والذي لم يترك نقيصة تنموية، سياسية، اقتصادية وإدارية إلا وكشف عنها، ورسَّمها؛ حتى أحرج وأشعر المعارضة بتقصيرها، قبل الحكومة.

لا مناص من مساءلة بنية العقل السياسي الذي أنتج كل هذا الفشل، مساءلة آليات عمله ومسلماته؛ حيث تختبئ دودة التفاح؛ حتى لا نعاود اعتماد مخططات تنموية تحبل منذ البداية بأجنة الإحباط.

وبعد هذا - وليس قبله - نقارب المفاصل، أو المرتكزات، أو الحوامل، الكبرى للتنمية المتكاملة، بكل جرأة، وبلا هوادة؛ لأن الوقت لم يعد يتسع لا للتضليل ولا للنفاق السياسي.

مرتكز التعليم:

* انهار النظام التربوي لأن التلغيم طال كل جيوبه، منذ الاستقلال؛ وكأنه فرنسا الثانية التي كان على الجميع أن يتصدى لإسقاطها.

لا أحد صاغ الأسئلة الضرورية للبداية:

هل نبدأ ببناء الدولة الحديثة، بالنظام التعليمي الراسخ والفعال، الذي خلفته فرنسا؛ غنيمة لنا، لكن من حر مالنا؛ أم نهدمه لتنبني الدولة كما اتفق؟.

مع الأسف اختار حزب الاستقلال - حزب الملك والشعب وقتها - وقد تخلى له القصر عن التعليم، أن يهدم العمارة التربوية الفرنسية، ليقيم عامة الناس في خيام التعريب؛ بدون برامج تنموية دقيقة، وبدون مناهج تعليمية واضحة الغايات والأهداف؛ وبدون حتى هيئة تدريس مؤهلة.

وفي مقابل هذه السياسة المتهورة تم حجز الفرنسية في معاقل خاصة، لتنتج النخبة.

من أين كل هذا الخبث التعليمي ونحن لم نبرح فرحة الاستقلال؟.

مازلنا، إلى اليوم، لم نخرج من هذه الدائرة المغلقة؛ ومازلنا لا نجرؤ على طرح أسئلة البناء التربوي الكفيل بإحداث التغيير المجتمعي المنشود.

هل نبني نظاما تربويا بمقاييس دولية؛ كفيلا بتحرير الإنسان المغربي من الجمود الفكري، بتربية كل ملكاته الذهنية ؛ حتى يؤمن بـ"عقيدة" العولمة المُطْبِقة؛ ويتجاوز جميع الإعاقات الذهنية، الذاتية والموضوعية، التي تشده إلى أعماق الغرق؛ أثقالا فكرية؟.

أم نُحَكِّم مقاساتِنا الطوباوية، لندلي بالرشاد، الصلاح، المحافظة، الخصوصيات، وكل القاموس الذي ينصهر – مُغرِضا – في معنى واحد:

تخريج المواطن الذي لا يتجاوز، فكرا، حقوقا، وطموحا، الممكن الذي يسمح به النظام، لأنه الأفضل لمجتمع سُبِك ليعتبر المحافظة فضيلة، والبدعة ضلالة؟.

وهل ننتظر من حزب إسلاموي يترأس الحكومة للمرة الثانية - أو الثالثة- أن يبني نظاما تربويا عقلانيا وحداثيا؛ يكون هو (الحزب) أول ضحاياه في المستقبل؟

مع الأسف حتى مخطط الإصلاح الأخير يبرهن على عبثية هذا الانتظار؛ فهو لا يحيد عن هذا السقف، رغم كل الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة له:

سبك المواطن بدل تفتيح كل ملكاته ليتحرر ويحرر.

لقد مُكن المجلس الأعلى للتعليم من كل شيء - حد البذخ - إلا من القرار السياسي الصارم الذي يَجُبُّ ما قبله من غايات وأهداف - سبق أن سُطرت للنظام التعليمي - حققت لأصحابها المتعة الإنشائية فقط.

نحن، بهذا، سواء بعد عشر سنوات، أو خمسين، وحتى مائة؛ لن ننتج نظاما تربويا فاعلا بقوة في التنمية، وبناء المغرب المُلزَم بالحداثة؛ بل سنعيد إنتاج نفس عقاقير الراحة، التي ترخي عقل الدولة، لتمد أرجلها مسترخية، كما تشاء.

إن تدبير الزمن المدرسي، من حيث البنيات التحتية، الموارد البشرية، المناهج والبرامج، والتعاقدات مع الفئات المستهدفة يكلف الخزينة أزيد من خمسين مليار درهم سنويا؛ وإذا أضفنا إلى هذا التحملات المادية الحالية للأسر، لتمدرس أبنائها، سوا ء في القطاع العام أو الخاص، فإننا سنصل إلى مجاميع مهولة.

هذا عن المدخلات، فماذا تقول المخرجات؟

من نسأل عنها؟ هل الأسر المحبَطة، بأبنائها المعطلين؟ أم مديرية الأمن التي تعرف أعداد المحتجين في الشوارع، من حملة الشواهد، كل يوم؟.

هل نسأل عنها المشرفين عن مباريات التوظيف، في جميع القطاعات؛ فهم أيضا أدرى بهول الجحافل؟.

أما إذا يممنا جهة المتسربين من النظام التربوي، في جميع مراحله؛ والذين يتبخرون في تلافيف المجتمع، فإنها القارعة حقا؛ خصوصا حين يتحول بعضهم إلى زبناء مداومين للمؤسسات السجنية.

هل نمضي، مرة أخرى، في تدبير هذا الزمن المدرسي، الباهظ الثمن، وفق ما جرى به العمل، منذ هدم العمارة التعليمية الفرنسية، ونصب الخيام، في فجر الاستقلال؟.

إن الزمن المدرسي الذي يُدَبَّر بمعزل عن الأزمنة التنموية كلها - وليس الزمن الاقتصادي فقط- هو زمن للهدم وليس البناء.

وها نحن نصنع العثرات التنموية، مرة أخرى؛ على غرار الألغام التعليمية المذكورة سابقا: نسعى إلى بناء نموذج تنموي جديد، في الوقت الذي أنهى المجلس الأعلى للتعليم مخططه، الذي يمتد إلى سنة 2030.

لا يستقيم هذا إلا إذا كنا نعتبر "الثورة" التنموية ممكنة، بدون الحامل التعليمي "التثويري"؛ وهذا مستحيل.

 

رمضان مصباح الادريسي


 

مرتكز العدالة: يتبع