إن ولوج الموريتانيين المهمشين لحرية التعبير والذين أحكمت الأنظمة المتعاقبة إبقاءهم خارج دائرة الحياة العامة، وتمسكهم بحماس عفوي بمسيرة التغيير البناء وقائده فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز، يختلف عن المواقف السياسية التقليدية وتداولها في حيز المشهد العارف بفلسفة الدساتير وانتظام المؤسسات وحسن أداء هياكل الدولة.

يأتي هذا السلوك الجماعي الأول من نوعه في تاريخ الحياة السياسية للبلد، تجسيدا لاكتمال مشهد اللحظة الثورية وانخراط الشعب في معركتها ضد كل أشكال الوثنية الدستورية، ليتعين على رجال الشرف في القوى الحية للأمة خدمة الشعب بوفاء وثبات ضروريين لاستكمال ضوابط الحياة السياسية النشطة، ودفق العطاء الضروري للتعاطي مع الحياة الدستورية بصفة تلغي أوهام الأثر الرجعي وتفك قيود الشعب بتقنية التشريع لمواصلة معاركه ضد التخلف ورموز مشهد الوثنية الدستورية في أسمى تجلياتها.

كل الحجج المقدمة لإرساء منطق قرعة التناوب تخالف مبدأ الشرعية وتتنافى مع قيم الديمقراطية التعددية، وتلغي بصفة تعسفية تاريخ وخصوصية المجتمعات، وتعتبر تراجعا بينا في التعاطي مع الديمقراطية وسيادة الشعب.

والجدل هنا ليس حديثا ولا حتى حداثيا، بل قذف به ماضي الاستبداد ورغبة المستعمر، من سفر تنظير الإغريق ورتابة الفكر القديم لأثينا، بضعة قرون قبل ميلاد المسيح عليه السلام، إلى إفريقيا بعد انهيار نموذج دولة الحزب الواحد واستحالة الجيوش الوطنية إلى ميلشيات طائفية وباقي مؤسسات الدولة إلى إسطبل للمواجهات العرقية.

تكتمل سيادة العقل البشري في تناوله لتراكمات الحضارة، بالعبور بالمجتمعات من حيز الجمود نحو آفاق الإبداع خدمة للأجيال القادمة بوتيرة سلطة الدهر.

يلعب الذكاء السياسي دورا مرجعيا في العبور بالأمم إلى انسجام التراكمات مع حركية التلاطم الحضاري وإرساء ثقل وجودي يشيد المؤسسات الكفيلة بتربية وتأهيل وتكوين المواطنين ليستمر فعل الإبداع السياسي الضامن لانسجام وتناسق أوجه الإبداع الجمالية في المجالات الثقافية والاقتصادية؛ وانتظام بقية مظاهر الفوضى الوجودية في المجتمعات البشرية.

عبر مسار الامتهان الحضاري بالبشرية من منطق القرعة لممارسة التناوب، إلى تصور آليات أكثر فعالية وشرعية في ممارسة الحق الطبيعي للأفراد ببعده العبقري الكاريزمي، وطفق يهذب ويقنن الفعل السياسي ويبدع في صقل الأطر المرجعية لضمان ممارسة تستوفي بعد الشرعية وواقع التمثيل وآفاق الكرامة البشرية كهدف وغاية لإسعاد المجتمعات، وتحييد شبح التهاوي الحضاري عن مستقبل الأجيال القادمة وضمان رفعة أوطانها.

في العقد الأخير من القرن العشرين، تهاوت الإيديولوجيات التي صيغت على عجل في مسار الخروج من الحرب العالمية الثانية؛ وعجل منطق السقوط لاحقا انهيار الاستبداد ومعاقله في أوروبا الشرقية، مفسحا المجال لسيادة فلسفة العدالة والمساواة في شرق الشمال، وطفحت في غرب الجنوب مكبوتات النزعات الطائفية والعرقية، لتستقر في هيكل الجمهورية الخامسة بإرادة "لابول" وقوة الغياب عن منطق موازين قوى الامتهان كمسرح للمعترك الديمقراطي الذي خرج دائرة الاحتكار والتحقت عراقة أنظمته بالفعل الحضاري المشاع بين القوى الحية للمجتمعات البشرية.

في موريتانيا احتقن التغيير البناء، مجمل الخطابات التقدمية، وأحال النوايا الإصلاحية إلى لحظة ثورية، قلبت نظام الحكم بمؤسسات وليدة المحاكاة السطحية، وأعفت سلطان الرجعية في المؤسسات الاجتماعية، وأرست منطق المحافظة على الحكم وممارسة السيادة، وأبدعت في نهج الحكامة، ورسخت ضوابط ديمقراطية تلائم التراكمات الحضارية، وأرست هوية الدولة والمجتمع بمحتويات فكر وسلوك الأمة الموريتانية المعطلة عن التأثير في حياة الجمهورية بفعل سيادة جوهر التعالي لمؤتمر برلين ودونية واقع السراب الذي سقطت في شراكه نخب أقلعت عن التفكير وتمسكت بريع المراعي، على أتم الاستعداد للرحيل عن رماد جفافها نحو مرتع جديد.

في موريتانيا عبر التغيير البناء بحياتنا الدستورية إلى واقع التعددية في لحظة ثورية، استوفت بنيان الشفافية السياسية وعززت المشهد بمؤسسات صلبة القوام مصقولة الهوية قادرة على تعزيز نضج الشعب بإزاحة القرعة الوثنية للتناوب ليستمر العمل في البنيان الديمقراطي التقدمي وصيانة مكتسباته التي تستحيل عودتها تحت رحمة أو حتى إمرة الماضي الذي يسكن أباطرة الفساد العابر للحدود الحنين بالعودة إليه وسيادة منطقه الغاشم وهيولا التلاشي.

إن أصحاب فهم الأثر الرجعي الدستوري، من قيادات حزبية ومنظمات حقوقية وتجار ومراهقين يجهلون التاريخ ويقللون من قيمة الجغرافيا ويعادون البيئة ويستهدفون كرامة الإنسان؛ أشهدوا العالم على عدائهم للديمقراطية واستهدافهم لامتهانها ومؤسساتها، حين اختاروا في لحظة العرس الديمقراطي الذي يجسده في منطق الحضارة، التنصيب كتتويج لعملية انتخابية اختار الجميع مسار شفافيتها وباركه العالم، قاطعوا العرس وانحازوا للكتابة بإملائها السقيم ولغتها الفقيرة على جدران مؤسسات حصدت ريادة العالم العربي ونافست العالم الحر في مجال حرية التعبير.

بفهمهم وأسلوبهم، يستهدفون سيادة الشعب ويسعون بمال الفساد وولاء العدو إلى استحالة ممارسة السيادة من طرف الشعب كردة فعل عدوانية على اللحظة الثورية التي عصفت بمنطقهم وهياكلهم وزيف احترامهم وباطل انتمائهم إلى الأمة الموريتانية التي لفظت أبنائها العاقين ولم تعد مستعدة للتستر على شقاء أرواحهم وميولها الإجرامي.