تذكر الوقفة الاحتجاجية للأمراء ( أصبح الأمراء يقفون احتجاجا ، يا لمكر التاريخ! ) السعوديين، بالأغنية الطفولية ، "خمسة عشر رجلا ماتوا من أجل صندوق"، التي كنا نسابق الريح، حتى لا نفوت حكاية القراصنة و الأخيار، وهم في بحث  شائق عن الجزيرة وعن الكنز. نعم احتج الأمراء بعد أن قُطع عنهم الكهرماء، و أصبحوا مطالبين بتأدية فواتيره، كأي  فرد من أفراد الشعب، الذين يدفعون مقابل الماء و الكهرباء وأشياء أخرى، وهذه واحدة من عجائب الدهر الجديدة.

و الحق أن القضية تتجاوز بعدها الساخر، لتطرح مسألة بالغة الأهمية، حول الاستثناء مما لا يُستثنى منه الآخرون ، حول الاستفادة من المال العام ، حول الريع والكنوز المخبوءة ، تأكل منها طائفة، و تنعم باسم التميز و الامتيازات ، دون أن تدفع فلسا واحدا مقابل ذلك. بينما ترزح الطوائف الأخرى و تكتوي من غلاء الأسعار و ارتفاع تكاليف العيش في أبسط صوره، و تقتطع من خبز أبنائها لتضمن لهم اليسير من وسائل العيش و بعض ما يقيمون به أودهم.

كثيرمن الناس ترعبه الفاتورة الشهرية لقوام الحياة ( ولقيام الحياة)، و تظل في صراع مرير وسيزيفي، تُعلن نتيجته عند رأس الشهر، إما تعادلا أو اقتراضا أو دينا مؤجلا، يزداد تضخما مثل كرة الثلج المتدحرجة. فما يعتبره الناس غولا شهريا، يجثم على رواتبهم و يقضم من الجزء الكبير، تعدّه طائفة من المقربين و المحظوظين ، أمرا يسيرا ، لا يُؤبه به، ولا يستحق حتى عناء قراءة الفاتورة .

الماء و الكهرباء و السكن والسائق و العسس و السيارة و أشياء أخرى لا يعلمها إلا الذين يرتعون في عالم الريع و الحظوة والمجان ...هذا ترف زائد مستنكر، فمهما تكن الخدمة التي يقدمها موظف الدولة، و مهما يكن المنصب ، فينبغي أن يأكل صاحبه بالمعروف، مراعاة لشعور السواد الأعظم من الكادحين ، ومراعاة للصنبور المالي الذي يغرف من عرق دافعي الضرائب  وهذا ريع مرفوض، تُفاضل به قوانين الوظيفة ، و تمييز مجحف ظالم.

صحيح أن بعض الوظائف ، لها من الخصوصية، ما يجعل صاحبها بمعزل عما يكابده الكادحون، لكن الأمر لا ينبغي أن يتم ، على هذا الشكل من التفاضل المُختل، وهذا التمييز العنصري.  فقد نسيغ عزل بعض أصحاب الوظائف  عن الناس، و توطينهم داخل سكن وظيفي مراعاة لخصوصية المهنة و المكان، لكننا لا نسيغ إعفاء هؤلاء الناس و استثناءهم من دفع ، ما يدفعه الناس، مادامت الأرملة التي تعيش وحيدة، و التي تكتري غرفة وحيدة، ذات المصباح الوحيد، مطالبة  بتأدية ما يسجله العداد المسرع دائما، من واجب ، تؤديه كاملا غير منقوص.

المسألة إذن مسألة قرصنة ومسألة ثروة مفقودة مستباحة، وبتوزيع عادل للواجبات و الحقوق التي لا ينبغي أن يتملص منها أحد.

إن الزمن الذي كان يتهافت فيه الموظفون، على المناصب المرفقة بالعنوان المغري :  بالسكن ، يجب أن يُولي إلى غير رجعة، و إنه آن الأوان لمراجعة ، قوانين الوظيفة والشغل، التي ينبغي أن تُنزل أبناءها منزلة واحدة ، وألا تفاضل بينهم إلا بالعمل و والمردود.

إن وضعيات من قبيل:  المُعفَون و المستثنوَن و المحظيون ، تضرب في العمق أساس التنافس الشريف، و مبدأ العدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد، الذي من المفترض أن يكونوا سواء في الواجبات و في الحقوق. أما طرق المفاضلة الصحيحة و طرق التنافس الشريف ، فتجعل الطريق مفتوحة أما العمل و التسابق  و الكسب المشروع و الجد و الاجتهاد، فهذه أمور تحرك الحياة و تحرك التاريخ، فالعامل غير القاعد والمجد غير الخامل.

هذه صورة من صور الريع ، الذي يتلون بألف لون ، صورة تستنزف بيت المال، وهدر لجُهد الآخرين الكادحين، مضافا إليها باقي الصور البشعة للريع من رخص للمقالع و المصايد والامتيازات و الاحتكارات ، والتي لا  تزيد الوضع إلا  تأزيما واحتقانا.

في دجنبر من سنة 1995 تناقلت وسائل الإعلام العالمية، صور الرئيس البولندي السابق ليش فاليسا، وهو يلتحق بمقر عمله القديم  كهربائيا بورشة لبناء السفن، كأحد من العمال الآخرين، قادما من عالم الرئاسة بلا ريع ولا امتيازات.

وخلال الفترة الممتدة بين 2010 و 2015 ، لقب رئيس الأورغواي السابق خوسي ألبرتو موخيكا بـ"أفقررئيس في العالم" بالنظر إلى الحياة البسيطة التي كان يعيشها أو بالأحرى يوثرها، مسكنا بسيطا و سيارة قديمة كتلك التي يركبها  عامة الناس، و راتبا شهريا عزف عن أغلبه و رغب عنه.