شكرا سعد الحريري، شكرا نهاد المشنوق. شكرا لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية على جهودهما من اجل إقرار الحق وعملهما من اجل تبرئة زياد عيتاني الذي امضى ثلاثة اشهر في السجن بتهمة التعامل مع إسرائيل، وهي تهمة تبيّن انّه بريء منها.

لا بدّ من شكرهما أخيرا على عملهما من اجل إعادة الثقة بالقضاء اللبناني وإعادة بعض الامل بانّه لا يزال في الإمكان الرهان على لبنان ما بقي فيه اوادم يرفضون الظلم بكلّ اشكاله. اظهر الرجلان ان لبنان لم يمت بعد ما دام فيه قضاء عادل وما دامت فيه أجهزة امنية تدافع عن المواطن وتعمل من اجله، بدل ان تعمل من اجل قهره وقمعه وتشريده واجباره على الهجرة.

تعيد تبرئة زياد عيتاني، ابن العائلة البيروتية العريقة، الاعتبار الى الدولة اللبنانية ومؤسساتها في وقت تظهر الحاجة اكثر من ايّ وقت الى ذلك. انّها إعادة اعتبار الى ثقافة الحياة في لبنان عبر تأكيد ان مؤسسات الدولة، خصوصا الاجهزة الأمنية والسلطة القضائية، في خدمة المواطن اوّلا.

ما يحتاجه لبنان حاليا اكثر من ايّ شيء آخر هو العودة الى الدولة والى مؤسسات الدولة التي بدأ يفتقدها شيئا فشيئا في ظلّ أزمات النفايات والكهرباء والسير والإهمال المتعمد لصيانة الطرقات والابنية والاعتداء على الرصيف.

صرنا في بلد لم يعد فيه ارصفة ولم يعد فيه من يفكّر في المحافظة على البيئة والعمارة القديمة. صرنا في بلد هناك من يريد فيه منع عرض فيلم "ذا بوست" لستيفن سبيلبرغ وإعطاء شهادات في الوطنية لهذا المواطن او ذاك، تماما كما كانت عليه الحال ايّام الوصاية السورية. كان المفوّض السامي السوري يقول عن هذا الشخص انّه "وطني" وذلك كي تسهل عليه مخالفة القانون وتجاوز مؤسسات الدولة. كان على كثيرين من المسؤولين الذهاب بين حين وآخر الى دمشق وعنجر لاجراء فحص دمّ واثبات الصفة "الوطنية".

كانت "الوطنية" تعني قبل ايّ شيء آخر الولاء للمحتلّ السوري. كان السقوط في فحص الدمّ يكلّف غاليا. يمكن سؤال كمال جنبلاط الذي اغتاله ضابط سوري في العام 1977 عن النتائج المترتبة على هذا السقوط.

من المهمّ بعد اليوم ان لا تبقى تبرئة زياد عيتاني حدثا معزولا، بل ان تكون الطريقة التي تصرّفت بها السلطتان التنفيذية والقضائية هي الأسلوب المعتمد في تعاطي الدولة مع المواطن العادي. مثل هذا التعاطي يعيد الثقة المفقودة في مؤسسات الدولة ويقضي على المخاوف من قيام نظام امني في البلد يحرم المواطن من الحرّية.

في الأشهر القليلة الماضية، بدا لبنان وكأنّه يتجه نحو ان يصبح دولة امنية بامتياز، خصوصا بعد توقيف زياد عيتاني وبعد صدور حكم عن المحكمة العسكرية في حق الزميلة حنان غدّار التي تعمل حاليا في واشنطن وبعد الحملة التي تعرّض لها الزميل مرسيل غانم.

بدا ان لبنان ذاهب الى الحج، فيما الآخرون عائدون منه. بدا ان لبنان يتقوقع على نفسه وباشر الدخول في حلقة مغلقة، على غرار ما حصل في معظم البلدان العربية التي حكمها العسكر. كان لا بد من كسر هذه الحلقة المغلقة والقول للبنانيين ان العسكري السوري الذي خرج من لبنان في نيسان – ابريل من العام 2005، بعد شهرين ونصف شهر من اغتيال رفيق الحريري، خرج فعلا.

خرج جسديا وخرج معه أسلوب التعاطي الأمني مع المواطن اللبناني. لم تنته الوصاية السورية كي تحلّ مكانها وصاية أخرى يفرضها السلاح غير الشرعي وفائض القوّة.

كثيرون في لبنان رفضوا منذ البداية تصديق ان زياد عيتاني يتعاطى مع إسرائيل. بدت الرواية التي وزعت عن "عمالاته" من النوع المضحك المبكي اكثر من ايّ شيء آخر.

بدا وكأنّ هناك من يسعى الى اثبات وجوده في المجال الامني وإظهار فعاليته عبر المسّ بكرامة مواطن وسمعته، بل بعائلة لبنانية اصيلة، واهل بيروت بالذات.

يفترض الّا تتوقف الامور عند تبرئة زياد عيتاني. توقف الامور عند هذا الحدّ سيجعل قضية الرجل تبدو وكأنّها مرتبطة بالحدث الانتخابي ليس الّا.

لذلك، من المفيد ان تكون براءته منطلقا لاقناع اللبنانيين بانّ هناك بالفعل تغيير حصل في البلد وذلك منذ اللحظة التي جرى فيها سدّ الفراغ الرئاسي بهدف انتظام عمل المؤسسات.

من المفيد أيضا اقتناع اللبنانين بانّ هذا التغيير ليس موسميا بمقدار ما انّه سينسحب على كلّ القطاعات بدءا بصيانة الحرّيات والكرامات وصولا الى معالجة ازمة النفايات والكهرباء والسير والاعتداء على الرصيف...

وان لا عودة بطريقة او باخرى الى ممارسات تذكّر بالذهنية التي سادت ايّام الوصاية السورية. لم تخرج هذه الذهنية من الباب كي تعود من الشبّاك.

يبقى ان وزير الداخلية تعرّض لحملة بسبب اعتذاره باسم "كلّ اللبنانيين" من زياد عيتاني.

هذا ليس وقت المزايدات، بل وقت العمل الجدّي من اجل اقناع اللبناني بانّ الدولة، شعبا ومؤسسات، حريصة عليه وعلى حرّيته. الم يتدخل سعد الحريري من اجل عدم الحاق الظلم بالسينمائي زياد الدويري الذي يوجد من أراد تصويره بانّه "عميل لإسرائيل" مكافأة على فيلمه الناجح "القضية الرقم 23" المرشح لنيل اوسكار افضل فيلم اجنبي؟

وحدهم الكبار يعتذرون في هذا العالم. الاعتذار يعني الانتماء الى العالم الحضاري ويعني احترام المواطن.

بكلام أوضح، يعني الاعتذار انّ هناك استيعابا لوجود تقصير لا بدّ من معالجته. هذا ما يفعله سعد الحريري الذي تابع قضيّة زياد عيتاني، وقبل ذلك قضيّة زياد دويري، من منطلق انساني ومن منطلق حماية المواطن اللبناني كي لا يعود ويقع تحت ظلم الاجهزة الأمنية.

يبقى أيضا انّ الدولة اللبنانية، عندما تردّ الاعتبار الى مواطن تعرّض للظلم، انّما ترد الاعتبار الى مؤسساتها، خصوصا الى السلطة القضائية التي تعرّضت في الفترة الأخيرة لانتقادات شديدة في ظلّ محاولات لتسييس القضاء وجعله في خدمة جهات معيّنة تؤمن بثقافة الموت وبقتل كلّ ما هو حضاري في لبنان. كذلك، تثبت الدولة اللبنانية ان الاجهزة الأمنية، في مقدّمها فرع المعلومات، الذي أوقف ميشال سماحة وكثيرين غيره، ضمانة للمواطن ولكرامته.

ليس سرّا ان اللبنانيين عموما رفضوا دائما أي تعاط مع إسرائيل، حتّى عندما وصلت الى بيروت. رفض اللبنانيون، خصوصا اهل بيروت ايّ نوع من العلاقات مع الإسرائيليين ومع البضاعة التي ارادوا الترويج لها.

كلّ كلام عن "تطبيع" لا معنى له. اذا كان من انجاز حقّقه العرب في يوم من الايّام، فانّ هذا الإنجاز يتمثّل في ان مجتمعاتهم رفضت قبول الإسرائيلي كمحتلّ.

لم يستطع الإسرائيلي ان يكون مرتاحا في يوم من الايّام لا في مصر ولا في الأردن، أي في الدولتين اللتين وقعتا معاهدتي سلام مع إسرائيل...

كيف يكون هذا الإسرائيلي، اذا، مرتاحا في لبنان حيث يبدو مطلوبا في نهاية المطاف وضع حدّ لمهزلة من هو وطني ومن هو غير وطني ومن يعطي شهادات في الوطنية ويجري فحوص الدم في هذا المجال؟

الأكيد ان عائلة عيتاني لا تحتاج الى شهادة من احد... بل تعطي دروسا في الوطنية لمن لا يزال يحتاجها ومن لا يزال يعتقد ان مقاومة إسرائيل تعني نشر البؤس والخوف في البلد وان الوصاية السورية عائدة بطريقة او باخرى تحت عنوان مختلف وشعارات "المقاومة" و"الممانعة" وما شابهها.

 

خيرالله خيرالله